محمد المصطفى يكتب: “ما بين الكلمات والواقع.. كيف نحتضن الاختلاف بحق؟”

بين صخب المصطلحات الرنانة وصمت المعاناة الحقيقية، يقف الإنسان ذو الإعاقة في مواجهة مجتمع كثيراً ما يتقن فن الكلام أكثر من فعل الإنصات؛ “ذوو همم”، “متحدو الإعاقة” و”ذوو الاحتياجات الخاصة”.
تتعدد اللافتات وتختلف الشعارات، ويبقى السؤال الجوهري “طريّاً” كجُرحٍ مفتوح: كيف يتعاملُ هذا المجتمعُ، بأفراده، مع مَن يختلفون عنه في قدراتهم الجسديّة أو الحسيّة أو الذهنيّة، خاصة حين تكون هذه الاختلافات خفيّة عن الأعين، تسكن الجسد بصمت وتنهش الروح بلا ضجيج؟ هذه ليست محاولة لاستدرار رد الفعل اللحظيّ، ولا دعوة للشفقة، ولا طلباً للتعاطف الدراميّ، بل هي محاولة لكشف بعض الحقائق بعيدًا عن الشعارات، وطرح لتساؤل مرير حول كرامة إنسانية قد تُدهس تحت وطأة التجاهل وعجلة اللا مبالاة والاعتياد.

الإعاقة ليست مجرد تحدٍّ جسدي أو صحي، بل هي سياق يومي تتداخل فيه التحديات النفسية والاجتماعية والثقافية، وغالبًا ما يُنظر إلى أصحاب الإعاقة إما بعين من التعاطف المجرد من الفعل، أو بنوع من التهميش الذي لا مبرر له، فالمصطلحات وإن اختلفت، فإن الكثير منها يظل انعكاسًا لمحاولات مجتمع يسعى لأن يبدو متفهمًا، بينما يظل الواقع يعكس فجوة بين القول والفعل، وبين المبادئ المعلنة والتطبيق الفعلي.
لكل وصف ومسمى مقال، لكن تبقى “الإعاقة” بـ (تصريفاتها وأشكالها اللفظية والنحوية) هي “الوصف” الأكثر انتشارًا بحثيًا ومؤسسيًا، وإن ابتعدنا عن مسميات – تزيد من عزلة أصحابها، تحمل وصمة انتقاص – منها؛ العاجز، والأكتع والمكسّح والأطرم والأطرشّ والبركة، ومن اللباقة إدراك الفارق بين الوصم والوصف.
بعيدًا عن الرموز التعبيرية وردود الفعل اللحظية، يبقى السؤال مفتوحًا: كيف نتعامل فعليًا مع الأشخاص ذوي الإعاقة؟ هل نراهم حقًا في تفاصيل الحياة اليومية؟ أم نكتفي بالحديث عن الدمج والتقبل في الندوات والبرامج؟ الإعاقة، بكل أشكالها، مرئية كانت أو خفية، لا تختبر فقط قدرات الفرد، بل تختبر مدى نضج المجتمع في احتواء التنوع واحترام الفروق.
ما أسهل الإجابات بالحروف “البولد” والجُمل الصناجة وبـ “البنط” العريض، والمؤتمرات والندوات والقرارات عن الدمج والتمكين والتقبل وغيره، لكن كلها ردود لم تعطِ صاحب الإعاقة كرامته ، والمسؤولية هنا لا تقع على الدول والحكومات، المسؤولية – منا وفينا – تخص المجتمع وعناصره؛ من أول التعليم الأولي، ولحد المديرين المسؤولين في مختلف جهات العمل، وذلك في ظل دعوة الرئيس المصري بشكل دائم لتمكين واحتضان ومراعاة ذوى الإعاقة، عبر العديد من المبادرات.
قد يفهم المجتمع معاناة صاحب العكاز، أو ضعيف النظر، ومستخدم الكرسي المتحرك، أو من يحتاج وسيلة ليسمع بشكل أفضل، وكلها إعاقات ظاهرة، تراها بالبصر، لكن ماذا عن البصيرة؟ عن إعاقة غير مرئية بسبب مرض نادر؟ طيف توحد، تصلب لويحي، أو صرع، أو بعض حالات أمراض العضلات، التهاب الأعصاب المزمن، ومتلازمة التعب المزمن، والفيبروميالجيا وقائمة تطول خارج حدود معرفتي.
“قادرون باختلاف” هو تعبير موفق ومناسب في وصف فئة تستحق كل احترام وتقدير، لأنه يلامس الواقع دون أن يحملها عبء إثبات الذات وحدها، فالمعادلة ليست أن يتحدى الإنسان إعاقته فقط، بل أن يساهم المجتمع في إزالة العوائق التي تحيط به، وأن ييسر لا أن يعقد، وأن يحتضن لا أن يعزل.
في بعض الأحيان، تتحول مواقف الحياة اليومية إلى اختبارات قاسية، استهزاء عابر، أو تلميح ساخر، أو تجاهل ممنهج، كلها أفعال لا تدرج في خانة الجرائم، لكنها تترك ندوبًا في النفس، وربما تؤدي إلى نتائج مأساوية، كما حدث في بعض الحوادث الفردية التي أثارت الجدل ثم خفتت دون محاسبة أو مراجعة.
ورغم ما يبذل من جهود على المستوى الرسمي من دعم وتمكين ودعوات دائمة للاحتواء، إلا أن هذه الجهود لا تكتمل إلا بمشاركة واعية من المجتمع نفسه، من المعلمين في المدارس، إلى المديرين في أماكن العمل، إلى وسائل الإعلام والمؤثرين في تشكيل الوعي.
عندي عشرات الحكايات سأتجنبها، حتى لا يتخيل متخيل إن بعضها حكايات تعثرت بها منذ أن أخذني المرض من المشي الواثق الهادئ خشية السقوط للعكاز، حتى وصلت للكرسي المتحرك، سأبتعد عن حكايات شخصية اصابتني بكدمات ورضوض وسحجات- لكن يبقى الأفضل الكتابة عن غيري ممن لا صوت لهم ولا نافذة.. وربما إلى حكاية أو إلى اللقاء.