طارق عباس يكتب: بصير لم يهزمه الزمن
نقلا عن المصري اليوم.. طارق عباس يكتب: بصير لم يهزمه الزمن
للمبدع الحقيقى دائمًا مواقف ورؤى وقناعات ووجهات نظر يظل طيلة حياته حريصًا عليها، متمسكًا بها، ومستعدًا للدفاع عنها بكل ما أُوتى من قوة عقلية ووجدانية، ويظل يراها منهجًا ملتزَمًا وخطوطًا لا يتجاوزها أو يحيد عنها، وكلها قد تجسدت بوضوح لدى أشهر وأبرز وأهم الشخصيات الإنجليزية المؤثرة فى مسيرة القرن السابع عشر «الأديب والمناضل والسياسى والمفكر جون ميلتون»، الذى يُعتبر- وزنًا وقيمة- فى مرتبة لا تقل أهمية عن «شكسبير وجيفرى تشوسر».. كان ميلتون على امتداد حياته- مبصرًا وبصيرًا- رافضًا للضعف والخضوع لإغراءات الحياة وملذاتها، ومستعدًا لمنازلة أى إنسان من أجل الدفاع عن الحق والعدل والصدق والحرية بمستوييها «الفردى والجماعى».
فقد ميلتون بصره بعد مضى أكثر من ثلثى عمره، ومع ذلك لم تَهِن عزيمته ولم يسقط فى ظلمات اليأس والعجز والإحباط، بل أصر على أن يستعين ببصيرته لتكون عكازه الذى يتوكأ عليه كى يتمكن من استكمال مشوار حياته.
من مواقفه- التى لا تزال فخرًا لكل المؤمنين بالصراحة والوضوح طريقًا للتعبير عن مكنونات النفس ومصالح المجتمع- ما قاله لملك إنجلترا، ذات يوم: (أجبنى أيها الحاكم، أليس أقرب إلى العدالة أن تناصر مواطنيك؟!.. كن شجاعًا وانظر إلى الحق بعينيك مثلما أنظر أنا إليه ببصيرتى، ليتك مثلى، إذًا لرأيت الصواب بعينيك).
ومن أقواله التى تصلح منهجًا لكل أصحاب الإرادة: (ليس الشقاء فى أن يكون الإنسان أعمى، وإنما الشقاء فى أن يعجز عن احتمال عاهة العمى)، أى أن المصيبة ليست فى حدوثها، بل فى ضعف الإنسان أمامها واستسلامه لها وفشله فى مقاومة آثارها السلبية.
وُلِدَ جون ميلتون فى «6- 12- 1608» غرب لندن فى إنجلترا، لأسرة محافظة دينيًا وأخلاقيًا، عُرِفَت بشغفها بالعلم والمعرفة وباحترامها وإجلالها للعلماء. ويذكر التاريخ أن جده نتيجة اعتناقه الكاثوليكية تعرض للاضطهاد والبطش فى عصر الملكة إليزابيث، كما تعلق ميلتون بأبيه تعلقًا عظيمًا، إذ كان معلمه الأول وسبيله للإدراك المعرفى، ورث عنه حب الموسيقى، وتعلم منه كيف يكتب ويقرأ ويصبغ بوجدانه كلماته، التى كان ينثرها كاللآلئ على الورق وكالأنوار فى عنقود الأفكار.
عاش «ميلتون» حياة مليئة بالآلام والمصائب والمآسى المفجعة، التى كادت تُفقده الإحساس بمعانى الاستقرار لولا إيمانه بالقضاء والقدر، ففى عام 1662 فقد ابنه الأصغر، ثم زوجته، ثم فقد بصره، وبعد 4 أعوام تزوج بأخرى، لكنها ماتت أيضًا هى وطفلها الرضيع، وفى عام 1663 يعاود ميلتون خوض غمار تجربة زوجية ثالثة، بعدها تقلّب فى الحياة وقلبته الحياة حتى فارق الدنيا عام 1674 بسبب إصابته بالفشل الكلوى.