سلايدرمقالات الرأى

عبد الله السبع يكتب .. عن العـمـى والعـمـيان

 

 

 

لمَّا بلغتُ أربعين سنة؛ قررتُ أن أقرأ وِرْدِي القرآني على يدِ شيخٍ مُجِـيد؛ يُقوِّم لساني، ويَردُّ خطأي، ويُعطيني بعض مفاتيح التجويد اللازمة؛ كي أتعامل مع كتاب الله بما يليق بجلاله. واهتديتُ إلى شيخٍ بمسجد قريب من بيتي. كان الشيخ كفيف البصر، وكنتُ أقرأ عليه سماعًا. وبحمد الله ختمتُ المصحف قراءة على مسامعه عدة مرات.

لكني في كل مرَّة؛ وعند تلاوة الآيات التي تتحدث عن “العَمىٰ والعُميان”.. كان صوتي – لا إراديًّا – ينخفض قليلا، وتراودني نفسي بالبحث عن طريقة أتجاوز بها تلك الألفاظ؛ حتى لا أتلوها على مسامع شيخي الكفيف!

وكانت الدهشة تتملكني؛ حينما كان الشيخ يردُّني بقوةٍ وحسم. فلمَّا أتجاوز ردَّه لي، وأواصل القراءة مُتخطيًا إعادة قراءة لفظ ” أعمىٰ” وراءه، يُعيدُ الشيخُ رَدِّي مرات من دون ملل ولا يَرضى؛ حتى أُكرر وراءه اللفظ بنفس أدائه وقوته، بل وبنبرة صوته أيضًا!

لعلَّي كنتُ أستشعر الحرج؛ ربما تأثرًا بمشهد الفتى الذي تقمَّص دور د. طه حسين في مسلسل “الأيام” الشهير، حينما نادى عليه مُعلِّمُه ليخضعَ لاختبار؛ قائلا له: “تعالَ يا أعمىٰ”! وقد كان الممثل الذي جسَّد المُعلِّم جَهْم الوجه، غليظ الصوت! مما جعل ملايين المشاهدين يتعاطفون مع الفتى الأزهريِّ الكفيف.

خطوة بخطوة .. طريقة استخراج كارت الخدمات المتكاملة

لكني لاحقًا أنعمتُ النظر في اللفظ القرآني “أعمىٰ”؛ فوجدتُ أنه لو كان مسيئًا لمَا استخدمه ربُّنا. ومع تتبعي للآيات التي وردت فيها مادة “العَمَىٰ”؛ اكتشفتُ أن القرآن لا يريد بها في أكثر استعمالاته “كف البصر”؛ لكن المقصود بها: ضلال العقل. يقول ربنا: {أفأنتَ تَهدِي الْعُمْيَ ولَو كَانوا لا يُبصِرون}. [يونس: 43]؛ و المعنى المراد هنا هو: الضالون الذين لا يستجيبون. وفي موضع آخر يقول ربنا عزَّ وجل: {ومن كان في هذه أعمىٰ فهو في الآخرة أعمىٰ وأضل سبيلا}. [الإسراء: 72]؛ والمراد: الأعمى عن الحُجَّة، المنصرف عن الدليل. وفي سورة [فصلت: آية 17]؛ يقول الله تعالى: {وأما ثمود فهديناهم فاستحبُّوا العمىٰ على الهدى}؛ فالمقصود أيضًا بالعمىٰ هنا هو: الضلال.

وحتى في تلك الآية؛ التي جاء فيها اللفظان معًا: {قُل هل يَستَوي الأعمىٰ والَْبصِير أَفََلا تَتَفَكرون}. [الأنعام: ٥٠]؛ يقول المفسرون: هذا مَثل ضربه الله. والمراد: أن المؤمن بصير، والكافر أعمى؛ وبذلك: لا يستوي من هُديَ إلى دين الحق بمن هو في الظلمات أعمىٰ القلب.. فليس هذا وهذا سواء؟

الخلاصة، وبعد تقصٍّ للأمر: وجدتُ أن أكثر استخدامات هذا اللفظ ومشتقاته اللُّغوية في القرآن الكريم أتت من باب المجاز. ﻓﺍﻟﻘﺮﺁﻥ ﻳُﻘﺮﺭ ﺃﻥ ﺍلأعمىٰ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺤﻘﻴﻘﺔ؛ ﻟﻴﺲ أعمىٰ ﺍﻟﺒﺼﺮ، ﻭﺇﻧﻤﺎ أﻋﻤﻰ ﺍﻟﺒﺼﻴﺮﺓ، أو أعمىٰ ﺍﻟﻘﻠﺐ الذي ﻻ‌ ﻳَﻌﺘﺒﺮ ﻭﻻ‌ ﻳﺘﺪﺑﺮ.. مصداقًا لقول ربِّنا: {فَإَِنها لا تََعمىٰ الأبصار ولكن تَعمىٰ الْقلوب الَتي في الصدور}. [الحج: ٤٦]

وأهل علم اللغة يقولون إن استعمال أية لفظة في غير معناها المُعْجَمي يكون لوجود علاقة بين المعنىٰ اللُّغوي الأصلي لتلك اللفظة والمعنىٰ المجازي الجديد الناتج عن ذلك الاستعمال؛ بشرط وجود قرينة من إرادة المعنىٰ الأصلي للفظة.

مثال: تشبيهنا للجندي بالأسد؛ فالقرينة هنا هي الشجاعة التي استُعيرتْ من هذا الحيوان المفترس، ثم ألصقناها بإنسانٍ لا يَهابُ في المعارك؛ فصار كالأسد!

وحتى لما استعمل القرآن مادة العمَىٰ بمعناها اللُّغوي الحقيقي؛ الذي هو كَفُّ البصر.. فلم يستعملها على وجه الذم أو التقبيح؛ بل جاءت في موطن الرحمة. يقول الله تعالىٰ: {ليس على الأعمىٰ حرج} [النور: 61، والفتح: 17]؛ فلفظ الأعمىٰ جاء بمعناه الأصلي في موطن التخفيف على أصحاب تلك الظروف الخاصة.

وفي قوله تعالىٰ: {عَبَس وَتَوَلَّىٰ أَن جاءه الأَعمىٰ وما يُدريك لَعله يزكَّىٰ أَو يذكَّر فتَنفعه الذكرىٰ}. [عبس: 1- 4]، فقد ذكر الله الكفيف هنا باللفظ الصريح (الأعمىٰ)؛ لكي يُذكِّر النبي – صلى الله عليه وسلم – بأن هذا الرجل كان في حاجة إلى الرحمة والإقبال.. لا إلى الأعراض أو الإمهال.

مؤسس نساعد: يجب العمل على حل مشاكل ذوي الإعاقة ومعاملتهم بالشكل اللائق

ولم يقتصر استخدام المعنىٰ المجازي للعَمَىٰ والعُمْيان على القرآن وحدَه؛ إنما استُخدم في الأدب أيضًا. ولعل قصة “بلد العُمْيان” التي نُشرِت لأول مرة عام 1904م للكاتب البريطاني “هربرت چورچ ويلز”؛ هي أشهر نص تناول تلك التيمة. والقصة بها إسقاط؛ فهي لا تتحدث عن العمَىٰ الذي يُصيب العيون، وانما عن ذاك الذي يُصيب النفوس والعقول.

وتحكي القصة باختصار عن “نيونز” الذي تُلقي به المقادير في وادٍ غامض مجهول، ومعزول عن العالم. وقد انتشر بين سكان هذا الوادي نوعٌ من أمراض العيون أصابهم جميعًا بالعمَىٰ، وظلوا يتوارثون هذا العمَىٰ، حتى تأقلموا مع حقيقة عدم وجود البصر، وواصلوا حياتهم عن طريق: السمع واللمس والإحساس، ونسوا أن هناك عضوًا يُسمَّى: العينان!

وقد أحبَّ “نيونز” فتاة عمياء من سكان هذا الوادي؛ وأراد الزواج بها. ولما طلب أبوها رأي حكماء الوادي؛ كان قرارهم قاطعًا: هذا الفتىٰ عنده شيئان غريبان منتفخان يُسمِّيهما (العينين)، وله جفنان يتحركان وعليهما أهداب.. وهذا العضو المريض قد أتلف مخه، ولا بد من إزالة هذا العضو الغريب ليستردَّ الفتى عقله؛ وبالتالي يُمكنه أن يتزوج بالفتاة!

ملأ الفتى الدنيا صراخًا؛ فلن يُضحي بعينيه بأي ثمن.. لكنَّ الفتاة ارتمت على صدره وهي تبكي وهمست له: ليتك تقبل.. ليتك تقبل!

وكانت المفاجأة أن “نيونز” قبِل الخضوع لذلك القرار الجائر الذي فرضه مجتمع العُمْيان عليه لكي يتزوج من حبيبته. فقد صار العمَىٰ شرطًا؛ حتى يرتقيَ ويَقبلَ به المجتمع، ويُصبح مواطنا كاملا يستطيع أن يحيا حياة طبيعية مثل الباقين!

وفي ذلك إيماءة بأن من أراد السلامة في عالمنا؛ فعليه أن يضعَ على عينيه عصابة سوداء، وأن يُلغيَ عقلَه ويقتلَ ضميرَه! فالعمَىٰ وموت الضمير أصبحا شرطين للحياة على هذا الكوكب!

إن قصة “بلد العُمْيان” تُلقي بظلالها على كثير من الأحداث حولنا؛ فعندما تكون أنت العاقل الوحيد في زمن الجنون.. أو المتعلم الوحيد في زمن الجهل.. أو المُبصر الوحيد في أرض العُمْيان.. فسوف تكون قيمُك وأفكارك وآراؤك ورؤيتك للحياة في كِفَّة، وتقبُّل المجتمع لك في كِفَّة أخرى! أو أن ينظر لك المجتمع على أنك مواطن مريض ويجب علاجك، ومن ثمَّ يَكيلوا لك الاتهامات! وما أكثر عُميان البصيرة بيننا؛ وإما أن تستسلم وتصبح مثلهم، أو تعيش في عذاب مقيم!

أيضًا؛ حَفَل تراثنا العربيُّ؛ بمؤلفات عن العَمَىٰ والعُمْيان، وهناك كتاب شهير تناول هذا الموضوع عنوانه: “نَكْتُ الهِميان في نَكْت العُميان”؛ لمؤلفه صلاح الدين خليل بن أيبك الصفدي المتوفي سنة 764هـ. .. في أخبار

والكتاب عبارة عن رصدٍ لأخبار وتراجم العُميان، وفيه ذِكْـرٌ لأشهر من أصيبوا بالعَمَىٰ حتى عصر المؤلف.. الذي أورد فيه أيضًا الكثير من النوادر والأشعار التي تتعلق بتلك الفئة. وإليكم بعضها:

قال شخصٌ للشاعر بشار بن برد (وكان قد وُلد أعمَىٰ): ما أذهبَ اللهُ كريمتيْ مؤمن؛ إلا عوضَّه خيرًا منهما، فبِمَ عوَّضَك؟ فأجابه بشار: بعدم رؤية الثقلاء مثلك!

كما أورد الصفديُّ حكاية رجل نزل ببعض القرىٰ، ويحكي على لسان الرجل؛ فيقول: خرجتُ في الليل لحاجةٍ.. فإذا بأعمىٰ يسير حاملا جَـرَّة ومعه سراجٌ مُضيء؛ فقلت له: يا هذا، أنتَ والليل والنهار عندك سواء؛ فلم تحمل السراج؟

فأجابه: يا فضولي، حملته معي لأعمىٰ البصيرة مثلك، يَستضيء به.. فلا يَعثر بي؛ فأقع أنا وتنكسر الجَـرَّة!

ونختمُ مقالنا بتلك الطُرفة التي أوردها الصفديُّ في كتابه؛ بأن أعمىٰ تزوج بسوداء، فقالت له المرأة: لو نظرتَ إلى حُسني وجمالي وبياضي؛ لازددتَ فيَّ حُـبًّا. فقال لها الزوج الكفيف: لو كنتِ كما تقولين ما تركك المُبصرون لي!

مقالات ذات صلة

ما تعليقك على هذا الموضوع ؟ ضعه هنا

زر الذهاب إلى الأعلى