سلايدرمقالات الرأى

عبد الله السبع يكتب .. شهامة المصريين في زمن الكورونا

 

يُحكى أن أحمد لطفي السيد (أحد زعماء الحركة الوطنية المصرية) كان قد ترشَّح لعضوية البرلمان بدايات القرن التاسع عشر؛ عن دائرة السنبلاوين بمحافظة الدقهلية. وفي إطار المنافسة الشرسة علىٰ المقعد البرلماني؛ لجأ منافسُه (المترشح الآخر) في الدائرة إلىٰ حيلة شديدة الخبث لإثارة أهالي الدائرة ضده. إذ أخذ يجوب القرىٰ؛ معلنًا لأهالي الدائرة أن “لطفي السيد رجل ديمقراطي ـ والعياذ بالله ـ وأن من يريد ترك الإسلام فلينتخـبَه”!

وخلال مؤتمر شعبي حاشد عقدَه لطفي السيد لأهالي الدائرة؛ سأله واحدٌ من الحضور عن الموضوع. فأجاب الرجل بكل سلامة نية وعلى الملأ، بل وفي زهو وفخر: “بالفعل أنا ديمقراطي وسأظل مؤمنًا بالديمقراطية حتى النهاية”. وهنا سمع المحتشدون بآذانهم، وتأكدوا مما كان منافسُه يُشيُعه عنه؛ فانفضوا من حولَه.. وسقط لطفي السيد في الانتخابات لأنه يُؤمن بالديمقراطية!

تلك طُرفة سياسية شهيرة حدثت منذ أكثر من قرن من الزمان؛ وأسترجعُها اليوم لكي أُدلِّلَ على طيبة الناس وعدم وعيهم أحيانًا.. لا العكس. وسبب استرجاعي لتلك الطُرفة؛ هو مأساة الطبيبة التي تُوفيت بكورونا (تقبَّلها الله قبولا حسنًا) ورفْضِ أهالي مسقط رأسها دفنَها في مقابر أسرتها بالقرية؛ خشية العدوىٰ.. وتلك الواقعة – في رأيي – ما هي إلا دليلٌ جديد على عدم وعي فئات كثيرة من شعبنا البسطاء.. لا أكثر ولا أقل؛ لأنه لم يَجـر تنويرهم بحقائق الأمور، وكل الذي جرىٰ خلال الأسابيع الماضية؛ هو ترويعهم وتصدير الرعب والخوف إلىٰ نفوسهم!

فمنذ بداية شهر مارس الماضي؛ ووسائل الإعلام لا حديث لها إلا عن هذا الخفي المرعب؛ الذي لا يقف أمام خطره إنسٌ ولا جان! لا طب نافع معاه، ولا شرطة ولا قضاء ولا جيش؛ يمكنهم أن يتصدواْ لشروره.. والحل الوحيد هو أن “ادخلوا مساكنكم”؛ وليت كورونا يترككم في حالكم كمان؟!

فماذا يصنع الناس الطيبون البسطاء، بعد هذا الهلع المُوجَّه لهم ليل نهار؛ عبر شاشات الإعلام.. إلا أن يستحضروا مقولات الفناء، ونهاية الكون.. وأن تَرنَّ في آذانهم المقولة الباطلة: “إن جالك الطوفان…”!

وإنَّ أكثر ما يُحزنني في تلك اللحظات: أن يترحَّمَ واحدٌ علىٰ جدعنة ولاد البلد، ويتحسَّـر آخر علىٰ ذهاب النَّخوة والشهامة والمروءة من عند المصريين، وأن ينعتَهم ثالثٌ بتبُّخـر إنسانيتُهم!!

واسمحوا لي بالنيابة عن جموع المصريين؛ أن أتصدَّىٰ للرد على تلك التهم التي تُكال بلا رَوية.. بموقف حدث لي شخصيًّا منذ قرابة الثماني سنوات.. وياللمفارقة؛ كان ذلك في تخوم مدينة أجـا بالدقهلية (قرب المكان الذي وقَعتْ فيه أحداث رفض دفن المتوفاة بكورونا)؛ وقد كنتُ عائدًا من رأس البر بأسرتي (زوجتي وبناتي الثلاث) في أحد أيام نهاية الصيف؛ وإذ بعاصفة ترابية تُغطِّي السيارة من الخلف، يعقبها اهتزاز عجلة القيادة بين يداي. والحمد لله أن هداني للسيطرة علىٰ الموقف، وقمتُ بالركن يمين الطريق بجوار حديقة كانت مزروعة عنبًا علىٰ الطريق.

ونزلتُ؛ لاكتشف انفجار إطار السيارة الخلفي حتىٰ إن الأسلاك خرجت منه، أما الإطار الأمامي فقَد كان علىٰ الأرض ومفرَّغ تمامًا من الهواء! لم أكد أفيق من هول الموقف؛ إلا وأجد الكثيرين يتحلقون حولي خارجين من سياراتهم للإطمئنان عليَّ ومحاولين تقديم يد العون والمساعدة لي.

كانت المفاجأة التالية لي: أن الاستبن الذي معي لا يَصلح! ثم إن السيارة في كل الأحوال في حاجة إلىٰ فردتي كاوتش!! تطوع عاملان من حديقة العنب بدراجتيهما بأخذ الاستبن لضبطه ولحامه في أقرب محل علىٰ الطريق، وعرض عليَّ شابٌ أن يُعطيَني الاستبنَ الخاص به، وقال لي: أنا كنتُ في الاتجاه الآخر من الطريق؛ لكني عدتُ إليك لمساعدتك أنتَ وأسرتك.. لم أقبل بعرضه الكريم، وشكرته بشدة حتىٰ انصرف.

لم يَطُـلْ وقوفي؛ وإذ بملاك شهم في صورة سائق ميكروباص (سرفيس).. يرتدي جلبابًا كأي مزارع في حقل؛ يأتيني مُقدِّمًا الغوث من دون سؤالي حتىٰ. أحضر السائق الكوريك من سيارته، وقام برفع جانبٍ كامل من سيارتي، وحلَّ فردتيْ الكاوتش، وبعد فحصهما أخبرني: أن واحدة يمكن لحامُها أما الأخرىٰ.. فلا بد من استبدال فردة جديدة بها. وضع الإطارين في سيارته، وقال لي: تعالَ اركب. سألته إلىٰ أين؟ أجابني: سنرجع إلى أجا.. نظرتُ إلىٰ بناتي الثلاث وزوجتي، وقلتُ له: لن أتركهن. وبرغم طمأنته لي؛ إلا أنني صممتُ علىٰ موقفي. أخذ إطاريْ الكاوتش ونقودًا مني ومضىٰ، على أن أمهله قرابة نصف الساعة.

لم نتبادل أيُّ حديث أنا وزوجتي ونحن ننتظره، وبعد انقضاء نصف الساعة وأكثر؛ شعرتُ بغِصَّـة في حلقي، وبدأت أفكر في بدائل أخرىٰ لإنهاء الموقف الذي أعانيه.. وكان أكثر ما يُحزنني في تلك اللحظات: هو أن أكونَ خُدِعتُ في ذلك الرجل الذي رفض حتىٰ أن أساعده وأرفع معه الكاوتش التالف إلىٰ سيارته، وأنني وقعتُ ضحية شخص مخادع؛ طمع في فلوسي وفردتيْ كاوتش مخرومتين!

خلال فترة انتظاري للسائق؛ جاءني المزارعان بالاستبن بعد أن قاما بضبطه ولحامه. وبعد محايلة من جانبي أخذا الثمن الذي دفعاه للأسطىٰ، وعرضا عليَّ القيام بأية خدمة أخرىٰ؛ فأخبرتهما بأنني في انتظار سائق السرفيس، فرحلا.. مشكوريَن مأجوريَن إن شاء الله.

مالتْ أشعةُ الشمس إلىٰ الانكسار؛ مُؤذِنةً بزوال النهار، وبدأ القلقُ ينهبُ عقلي، والوساوس تسيطر على نفسي.. لم تَطُل هواجسي كثيرًا؛ وإذ بالمدد الإلهي يأتي! فمن بعيد؛ ألمح السرفيس قادمًا.. فتنفستُ مع أسرتي الصعداء! نزل الرجل الشهمُ من سيارته بجانبي، وأخرج من جيبه فاتورةً طاويًّا فيها بقية الفلوس؛ مشتملة علىٰ قيمة فردة الكاوتش الجديدة، وإصلاح الأخرىٰ.

ونظرًا لحرارة الجو، واستلقاء الرجل علىٰ الأرض.. أسفل سيارتي؛ كان العرق يتساقط على جبينه غزيرًا.. ومع ذلك؛ كان هذا الشهم – جزاه الله خيرًا – يرفضُ بإباء أية مشاركة من جانبي له فيما يبذلُه من جهد؛ حتىٰ انتهتْ المشكلة، وصارت السيارة جاهزة للسير من جديد.

قلت له: أُأمرني. فـرَدَّ عليَّ بغضب: “إياك تكون فاكر إني عملت كدا معاك عشان تعطيني فلوس”؟! وأشاح لي بيده: “يا الله رُوح بالسلامة”! فقلتُ له: لك دَينٌ في عنقي لن أنساه ما حَييتُ؛ لكن لا بد أن تأخذَ مقابل ما سبَّبتُه لك من عَطَلة. وبعد تفاوض شاق قَبِل أن يأخذَ فقط مقابل مشوار الذهاب إلى أجا (رايح / جاي) لإحضار الكاوتش الجديد ولحام القديم. وقال لي متسائلا بدهشة: انتَ مين؟ فنظرتُ له عاجزًا عن الإجابة؛ فقال لي: انتَ ربنا بيحبك قوي!

.. أيضًا لسنوات طويلة؛ كنتُ أغادر القاهرة بعد عصر يوم وقفة عيد الفطر لقضاء أيام العيد مع أبي وأمي (يرحمهما الله).. وكان أهل الخير يقطعون علينا الطريق من القاهرة حتىٰ المنصورة عُنوة؛ لإعطائنا زجاجات مياه وعبوات عصير وأكياس بلح؛ لنشقَّ بها صيامَنا أثناء سفرنا، مُعرِّضين أنفسَهم للخطر علىٰ الطرق السريعة، ولا تُفلح أية محاولة للزوغان منهم!

.. فيا أيها المصريون: اطمئنوا.. فلا نَزالُ بخيرٍ والله؛ وسنخرجُ من تلك الجائحة أكثر إنسانية، وأكثر رحمةً وتعاطفًا.. أما تفسيري لما حدث من رفض دفن المتوفاة: فإنه الهلع والرعب الذى سبَّبه ڨيروس كورونا؛ فطَمَس علىٰ العقول الطيبة المحسنة المبادرة بالخيرات.. ولسان حالهم يقول: يا روح ما بعدك روح!

أيضًا فإن الكثيرين من شباب هذه الأيام؛ لم يسبق لهم أن عاشوا ما عاشته أجيالٌ سابقة.. من محن وأزمات مَر بها الوطن. فهم لم يعيشوا مثلا أيام النكسة، ولم يشاركوا في الحروب التي خاضتها مصر، وربما لم يسمعوا عن تهجير أهالي مدن القناة، وكيف فُتحَتْ لهم القلوب قبل بيوت أهالي الدلتا والصعيد.. المؤكَّـدُ عندي: أن أوقات كورونا ليست هي الأوقات المُثلىٰ للحكم علىٰ شهامة المصريين.. نجانا الله من كوورنا، ومن سائر الكُـرَب.

اقرأ أيضًا 

متحدث الصحة يقارن الوفيات بعدد السكان .. العالم يحسب نسبة الوفاة للمصابين

شيخ الأزهر والأوقاف يعلقان على تجمهر الأهالي لمنع دفن وفيات الكورونا

مقالات ذات صلة

ما تعليقك على هذا الموضوع ؟ ضعه هنا

زر الذهاب إلى الأعلى