عبد الله السبع يكتب .. الجمعة السوداء وخُبْث المُصطلَح!
لماذا وَصْـمُ الجمعة تحديدًا؛ بأنها “اليوم الأسود” دون غيره من أيام الأسبوع؟! فلماذا لا يكون “السبت”، أو “الأحد” مثلا.. أو أي يومٍ آخر؟!
وما الذي استدعى الآن مصطلح “الجمعة السوداء” من أضابير الماضي؛ ليشيعَ في وسائل إعلامنا، وعلى ألسنة البعض للترويج لتخفيضات تُجرَى على أسعار سلع ومنتجات؟ والأغرب أن لدينا بدائل لُغوية معروفة تؤدي الغرض؟!
وأزعم أن عينيْ لم تقعا طوال عمري على مصطلح “الجمعة السوداء” إلا في السنوات الأخيرة. وكان الشائع الترويج للحملات التسويقية بعبارات تكتسي بها واجهات المتاجر والمحال الكبرى مكتوبة بألوانٍ مبهجة، وتشغلُ مساحات بارزة؛ مثل: [التخفيضات السنوية – تصفيات الربيع أو الخريف – بواقي آخر العام – أقوى عروض الأعياد بأسعار تنافسية].. وفي أضعف الإيمان؛ فكثيرًا ما كان يُستخدَم اللفظُ المُعرَّب “أوكازيون” الصيف، أو الشتاء!!
لا أخفي أن المصطلحَ استوقفني كثيرًا، وتساءلتُ متحيرًا: لماذا اختار المسوِّقون هذا اللفظ (السوداء)؛ الذي يَشي بالتشاؤم والإعتام، لدعوة الناس للتهافت على عروضهم التي تحظى بخصومات على سلع يُعرف عنها ارتفاع أثمانها على مدار العام؟!
واللغةُ العربية؛ تمنحُ مُحبَّها ميزة تجعل أُذنَه تتحسَّسُ كلَّ لفظٍ تسمعه، وتجعل عينَه تتفرَّسُ في كلِّ ما تقع عليه من تراكيب لغوية أو مصطلحات؛ خاصة إذا كانت مُخلَّقة أو وافدة على لغتِنا، وتقتحم حياتنا فجأة! وما أكثر ما تسمعه آذاننا اليوم؛ بعد التطور غير المسبوق لوسائل الاتصال الحديثة، التي باتت متاحة حتى للأطفال!
أيضًا – وبحكم عملي في التحرير الإخباري لأكثر من ثلاثين عامًا – فإني بتُّ أستشعر حساسية عند التعامل مع أي مصطلَح مراوغ؛ تحسبًا من تسلله إلى الخطاب اليومي، ومن أن يُصبحَ تداوله مستساغًا عند العامة، من دون استشعار بتناقضه مع معتقداتنا.
يَزيد من إيماني بتلك الفرضية؛ أن وسائل الإعلام الجديدة تنعمُ بحُريةٍ سقفُها السماء، وتفلُّت من أي قيد، ولا تلتزم بأي شرط مما تُلزم به سلطات كل بلد وسائل الإعلام التقليدية من: صحف وشبكات إذاعية وقنوات فضائية.
وفي وسائلَ تلك حدودها؛ لا يصعُب اختراق مرتاديها – وهم بعشرات الملايين – بأساليب ملتوية متعددة، وبوسائل خداع احترافية؛ من بينها: تغييب ألفاظ بدلالاتها الشائعة المعروفة، ونحت بدائل لها.. بما يَصبُّ في النهاية إلى هزِّ قناعات مترسخة لديهم!!
وتُمثِّل محاولات دَسِّ مصطلحات لُغوية عبر وسائل الإعلام؛ إحدى ساحات الحروب التي فيها سجال قديم. وللاستزادة؛ يمكن للقارئ الكريم أن يرجعَ إلى كتاب: “حرب المصطلحات”؛ الصادر عن اتحاد الصحفيين العرب عام 2002م؛ للإحاطة بشكل أوسع بتلك الحرب.
وفي عصرنا؛ ليس أفضل من “السوشيال ميديا” بكل تقنياتها: السهلة والسريعة والواسعة الانتشار في الترويج والتكرار لتلك المدسوسات، وتعميمها في الخطاب اليومي!
وربما يُبرر البعضُ اقتران صفة “السوداء” بـ”الجمعة”؛ بأنه يأتي من باب المجاز. ونُجيبهم بأن استعمال أية لفظة في غير معناها المُعْجَمي، يكون لوجود علاقة بين المعنى اللُّغوي الأصلي لتلك اللفظة والمعنى المَجازي الجديد الناتج عن ذلك الاستعمال؛ بشرط وجود قرينة من إرادة المعنى الأصلي للفظة.
مثال: تشبيهنا لشخصٍ ما بأنه “أبيض القلب”؛ فالقرينة هنا هي: (النقاء) الذي يُعبِّر عنه ذلك اللون، ثم ألصقنا تلك الصفة بذلك الشخص الذي تَشعُر بصفائه عند التعامل معه، وتطمئنُ له نفسك عند الحديث معه؛ لأن داخله نقيٌّ شفاف.. فصار ذلك الشخص في نظرك كاللون الأبيض الذي يخلو من أية شوائب!
في كتابه “اللغة والمجاز”؛ يقول المفكر الراحل د. عبد الوهاب المسيري (يرحمه الله): “نحن أدمنا تمامًا عملية نقل المصطلح، دون إعمال فكر أو اجتهاد، ودون فحص أو تمحيص.. فنحن ننقل آخر ما تسمعه آذانُنا بكل أمانة وموضوعية تبعثان على الضحك”!!
واليوم؛ فإنني أرى في مصطلح “الجمعة السوداء” – الذي جرى تصديره لنا – معنًى يُخاصم شرعَنا ومَنطقَنا. ومن البديهيات أن الدالَّ لا يُشير إلى مدلول فحسب؛ إنما يحمل أيضًا وجهة نظر مُنشئه ورؤيته الخاصة. وللأسف فقد جرى تداول ذلك المصطلح بكل أريحية؛ بزعم أن العالم صار قرية واحدة!
وكما يُنبئُنا علم اللغة؛ فإن الدال ليس أصواتًا منطوقة أو حروفًا مكتوبة فقط؛ بل إنه يُحيلنا إلى مدلول يُعطي صورة ذهنية محددة. ومع الوقت تترسخ في النفوس الانطباعات التي تُكوِّنها حواسنا عن هذا الدال ومدلوله. وما وقر عبر القرون عن دلالة “الجمعة”، أنه يومٌ مقدس عند المسلمين وله منزلة عالية في نفوسهم.
ولإسقاط هذا الكلام على موضوعنا؛ يتضح التالي: أن مصطلح “الجمعة السوداء” برغم البساطة التي قد يبدو عليها ظاهريًّا؛ فإنه يحتوي على طرفين:
الأول (الجمعة)؛ بمدلولاته القدسية في ديننا. والثاني: (السوداء)؛ برمزية اللفظة وبما تُوحيه من شيء محسوس يُمثِّل عندنا: الإظلام، واليأس والخيبة والفناء! نعم فالسواد هو رمزُ الحزن والهم والموت والإخفاق، والظلم والضلالة والغضب والإثم والكفر!
وتلك والله محاولة جُهنمية لربط الدال بمحسوس؛ ليقترن يوم الجمعة بتلك الدلالات. وبمرور الأزمان يستحيل محو ذلك المعنى الذي يستحضره مصطلَح “الجمعة السوداء” في نفس مَن يتلقاه!
يُرجى مطالعة مقالنا السابق عن “رمزية الألوان في خطابنا اليومي” عبر الرابط التالي
عـبد الله السبع يكتب .. رمزية الألوان في خطابنا اليومي
ورد في كُتب السُّـنَّة أن جوعًا وغلاء سِعْر، أصابا أهل المدينة في إحدى السنين. وذات يوم جمعة؛ وبينما النبيُّ (صلى الله عليه وسلم) قائمٌ يخطب؛ إذ قَدِمتْ تجارةٌ من الشام، فخرج إليها الناس، حتى لم يبق معه في المسجد إلا اثنا عشر رجلا؛ فنزل قول الله تعالى: “وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا”. [الجمعة: 11] فعقَّب النبي قائلا: “والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتّى لا يبقى أحدٌ منكم لسال بكم الوادي نارًا”.
لا يزال تساؤلي حائرًا: هل من العفوية الآن محاولة قلب تلك الصورة المستقرة في أذهاننا عن قدسية يوم الجمعة وفضله العظيم؟!
وتلك ليست المحاولة الأولى لاستهداف يوم الجمعة، والنيل من قدره العظيم. فحينما هبَّ ما سُمِّي بالربيع العربي؛ ارتبطت أهم فعالياته بالجمعة دون غيره من الأيام! ولعلنا لا نزال نتذكر ما جرى سَكُّه من مصطلحات؛ مثل: [جمعة الغضب – جمعة لا تراجع – جمعة ارحل – جمعة لن نركع – جمعة الإصرار – جمعة الحرائر…]، وظلت الجمع تتوالى بمسميات ما أنزل الله بها من سلطان!
فلِمَ الرَّبْط بين يوم الجمعة والاحتجاجات والمصادمات؛ التي يسقط فيها قتلى ويقع فيها جرحى؟ حتى كان الناس في تلك الأيام يتحسبون من مَقدم ذلك اليوم العظيم!
إن من الخطورة نقل ما سَـكَّه لنا غيرُنا من مصطلحات؛ فنحن لا ندري غرضَه، ولا نثق في مقصدِه. والأَوْلَى بنا أن نُسمِّي نحن واقعَنا بما يتفقُ مع إدراكنا، وبيئتِنا الحضارية والعَقدية.
قضية المصطلحات في حاجة إلى إعطائها حقَّها من الاهتمام. وغير مقبول منا أن نظلَّ فقط في موقع المكافح ضد ما يجري تسريبه إلينا من مصطلحات عبر وسائل الاتصال المختلفة. لكن واجبنا أيضًا أن نُعمِّمَ مصطلحاتنا التي تحمل انتماءاتنا وهُويتَنا، وألا نألو جهدًا في محاولة نشرها.
وإني لآمل أن تكون تلك الكلمات بمثابة دعوة للالتفات إلى هذه القضية المهمة؛ وكل رجائي أن تتخذ مجامعِنا اللُّغوية، ومؤسساتِنا الإعلامية، وهيئاتنا الثقافية.. خطوات تنفيذية عاجلة؛ حمايةً للُغتِنا العربية من النخر الهادف إلى تقويضها، ومواجهةً لشيوع ألفاظ غامضة تُشوِّه مرجعيتَنا، وتُجافي أذواقَنا.
وأخيرًا؛ فإن هذا المقال ما هو إلا محاولة متواضعة من جانبي؛ ليظلَّ لاسمِ “يوم الجمعة” وقارُه وقداستُه في عقل المسلمين ووجدانهم؛ اتساقًا مع ما عظَّمَه دينُنا.
متابعة أخبار موقع نساعد عبر google news اضغط هنـــــــــــا ، صفحة موقع نساعد على الفيسبوك اضغط هنـــــــــا
اقرأ أيضًا
14 معلومة عن قانون مخالفات البناء و7 حالات لا يشملها التصالح
تفاصيل نظام حجز مواعيد الكشف الطبي لقانون الإعاقة الجديد