عبد الله السبع يكتب .. عكازا بِيبـييـه
كلما شاهدت شخصًا مصابًا في إحدى ساقيه، يُمارس حياته، متحركًا بخفة وحيوية على عكاز؛ أشطح بخيالي بعيدًا متسائلاً: يا تُرى مَنْ ذلك العبقري الذي هداه تفكيره لهذا الاختراع، الذي قدَّم به خدمةً جليلة للبشرية، وأسدَى به معروفا كبيرًا لمن ابتُلوا بفَقْد القدرة على المشي؟ حتى قرأتُ مرةً تلك الحكاية عن محاولة اختراع أول عكازين، وأُحبُّ أن أَقصَّها عليكم بطريقتي:
في أرضِ الله الواسعة، ومنذ سنواتٍ بعيدة؛ كان هناك رجلٌ اشُتهِر بإلمامه ببعض المعارف الطبية البدائية. وكان هذا الرجل يركب بغلته ويجوب بها القرى والمناطق المختلفة؛ عارضًا خِدْماته على الأهالي الذين يعانون أو بعض أطفالهم من أية آلامٍ أو أمراض؛ من خلال وصَفاتٍ بسيطة كان يُقدِّمُها للناسِ الذين يعملون بها؛ أخذًا بأسباب الشفاء، مقابل منحه قليلاً من المال، أو بعضَ الطعامِ يقدِّمونه له.
وذات يومٍ، وبينما كان هذا الرجل يجوب منطقة جبال غرب المكسيك؛ هُرع تجاهه شخصٌ وسأله إن كان يستطيع مساعدته في علاج ابنه “بِيبـييه”؛ فأكد له الرجل أنه لا بد أن يُعاين الحالة بنفسه؛ حتى يستطيعَ أن يصفَّ الدواء اللازم. فطلب منه الأبُ أن يذهبَ معه إلى الكوخ؛ حيث يجلس الابن لا يقدر على مغادرته قَطّ. فنزل الرجل من فوق بغلته وربطها، ثم سار مع الأب مستندًا على عصا؛ فقد كان يُعاني من عرج في أحد ساقيه.
في الكوخِ البسيط؛ كان “بِيبـييه” جالسًا على الأرض منزويًا بأحد الأركان. وبمجرد دخول أبيه مع الرجل؛ ابتسم الصبي ولوَّح بيده مُرحِّـبًا بالضيف، ثم أسرع تجاههما يحبو على يديه، ويجرُّ ساقيه. فقد كان لا يستطيع الوقوف ولا السير؛ حيث أُصيبتْ ساقاه بالشلل منذ كان رضيعًا، وهو الآن في الثالثة عشرة من عمره.
جلس الرجلُ على الأرض في مواجهة الصبي، وبدأ في فحص ساقيِه، اللتين تبيَّن له أنهما لا تقويان على حَمْلِه، ولا بد من دعمهما بشيءٍ صُلْب لمساعدته على الوقوف؛ ومن ثمَّ السير.
تفكَّر الرجلُ قليلا؛ ثم سأل بِيبـييه: “هل حاولتَ السيرَ بعكازين؟”. بَدَت الحيرة على وجه الصبي؛ ثم هزَّ رأسه بالنفي؛ حيث لم يعرف ما المقصود بعكازين! فتدخل الأب موضحًا للرجل: “إننا نعيش بعيدًا جدًّا عن المدينة، ولا نعرف ما العكازان”!
بعد صمتٍ لم يَطُل؛ قال الرجل: “إذن فلنحاول صنع عكازين”. ثم استطرد: لكن هذا لا بد أن يكون في الباكر؛ حيث سأضطر لأن أذهبَ إلى الغابة القريبة.. ولهذا؛ فسوف أَحلُّ ضيفًا عليكم الليلة.
في صباح اليوم التالي؛ استعان الرجل بسِكِّينة طويلة محنية من طرفها وتوجه إلى الغابة، وهناك راح يبحث ويبحث، حتى عثر أخيرًا على غصنين من الشجر بحجمٍ متناسب؛ وفي طرف كل منهما فرعان على شكل حرف “Y”، عاد بهما إلى الكوخ؛ حيث ينتظره بِيبـييه وأبوه على أحر من الجمر.
بدا الرجلُ منكبًّا على الغصنين يُقلِّم الزوائد بهما، ويَعُدُّهما على شكلٍ معين؛ إلى أن أصبح العكازان جاهزين. اقترب الرجل من بِيبـييه الذي كان يراقب ما يجري متشوقًا. وطلب من الأب أن يرفعَ ابنَه ليكونَ في وضع الوقوف؛ ثم قام الرجل بإدخال العكازين تحت إبطي بِيبـييه لتجربتهما، وطلب من الأب أن يبتعد ويترك بِيبـييه يحاول الوقوف ثابتًا وحدَه دون مساعدة.
لكن حدثتْ مفاجأة؛ فما أن ألقى بِيبـييه بثقله على الغصنين حتى تقوَّس العكازان وانكسرا، ووقع الصبيُّ على الأرض مرتطمًا بوجهه!
أسرع الأب لمساعدة بِيبـييه على الجلوس؛ ثم وجه حديثه للرجل: “لقد فهِمتُ اختراعك؛ لكنك اخترتَ نوعًا لا يصلح من الأشجار؛ فهذا الخشب ضعيف جدًّا، دعني أذهب أنا لكي أُحضرَ لك بعض أغصان شجر الجاوتامو؛ فخشبه كالحديد، وفي الوقت نفسه هو خفيف الوزن، ولن يكون ثقيلآ يُرهق بِيبـييه”.
استلَّ الأبُ سِكِّينًة حادَّة وتوجَّه إلى الغابة، وما لبث أن عادَ بعد وقتٍ قليل؛ وهو يحمل غصنين من شجر “الجاوتامو”، بحجمٍ متناسب؛ وفي طرف كل منهما أيضًا فرعان على شكل حرف “Y”.
حينما رأى الرجل الخشب أُعجِب به؛ وانكبَّ على صنع العكازين من جديد، وكانت يداه تعملان بسرعة فائقة، بينما راح بِيبـييه وأبوه يساعدانه. عندما انتهى الجميع من صنع العكازين اختبرهما الأب أولاً؛ حيث ألقَى بكل ثقله عليهما فحملاه بسهولة ولم يتقوّسا برغم وزنهما الخفيف، ثم جربهما بِيبـييه فوجَدَ صعوبة في الحفاظ على توازنه في البداية، لكنه سرعان ما تمكَّن من الوقوف وحدَه بعد ذلك. وما هي إلا ساعات قلائل حتى كان بِيبـييه يتنقل بعكازيه بسهولة من مكانٍ إلى آخر؛ لكنه شكا أنهما يحفان أسفل إبطيه ويسبِّبان له ألمًا. فقال الأب: “عندي فكرة”. ثم ركض إلى شجرة برية قريبة ذات ثمارٍ قطنية، وقطفَ بعضَ ثمارِها الناضجة؛ ثم جمع أليافها الناعمة وجعل منها بطانةً صغيرة وضعها فوق العارضة العليا للعكاز؛ ثم ثبَّتها بواسطة أشرطة من القماش.
وعندما جرَّب بِيبـييه الوقوف، ثم السير هذه المرة؛ كان العكازان مريحين. وفي سعادة وخفة؛ راح بِيبـييه يتحرك بسرعة أمامهما معتمدًا على عكازيه؛ وهو يقول: “شكرًا أيُّها الضيفُ الكريم.. شكرًا يا أبي، لقد صنعتما شيئًا رائعًا، انظرا كيف أصبحتُ الآن أستطيع السير وحدي جيدًا”!
كان الأبُ يراقبُ ابنَه مبتسمًا، وفخورًا به؛ ثم توجَّه للرجل قائلاً: “لن يكون شكري لك كافيًا مهما أُحاول.. إنه لأمرٌ رائع أن أرى ابني يسير فعلاً بعد كل تلك السنوات منذ مولده.. ولا أعرف لماذا لم يخطر على بالي قَط أن أصنع له هذين العكازين”!
فردَّ الرجلُ: “بل أنا المدينُ لك بالشكر؛ فقد علمتني الكثير، وإن كانت الفكرة فكرتي؛ فالعكاز الذي صنعته قد انكسر، ولولا الغصن الذي اخترتَه أنتَ ما استطاع ولدُك السير، وبذلك تَساوَى الأمرُ بيننا”.
عندما استعد الرجل للرحيل عن القرية؛ كانت عائلة بِيبـييه كلُّها في وداعه. وبينما كان الرجل يبتعد عنهم، وهم لا يزالون يلوِّحون له بأياديهم؛ كان يبتسمُ راضيًا؛ وهو يُحدِّث نفسه: “كَمْ كنتُ مخطئًا، عندما لم أطلب نصيحة الأب منذ البداية، إنه يعرف الأشجار أكثر مني”!