رامز عباس يكتب .. والله ما أعرف
بقلم رامز عباس
ظل الرجل المسن يسير ببطء في الشارع العمومي الكبير، يخشي الانعطاف في أحد الشوارع الجانبية !
ربما تخوف أن يُهمل نصيحة صاحب كشك السجائر في بداية الشارع الطويل، بعدما وصف له المكتوب على ورقة لم يتمكن المسن من قراءتها.
المدون بالورقة كان عنوانًا، لمنزل ابنه طبيب النساء والتوليد الذي رحل من بلدته بالصعيد تاركًا عائلته بحثًا عن مستوي اجتماعي يليق بشهادته في مجال الطب، بعيدًا عن القرية الغارقة في الفقر وما يجلبه من مشاكل اجتماعية.
لم يدري العم “شعبان أبو حسين” وهو اسم اقتبسته أنا من صاحب المقهى الذي أجلس عليه بنفس الشارع لاسميه به.
عندما يمر علينا، يلقي السلام ويسألني وهو يتعرق بشدة على العنوان، يتحدث بلجهة بسيطة تجبرك على مساعدته مهما كان الأمر خارج يديك. “والنبي يا ولدي دلني علي بيت دكتور عبد ربه الله لا يسيئك ويبارك لك في أهل بيتك.
لا أعرف دكتور عبد ربه وبالتالي أجهل عنوانه ولكنني أخذت منه الورقة في محاولة لاستحلال تلك الدعوة الجميلة، ثم أعدتها له سريعًا واعتذرت له. مرددًا بيني وبين نفسي المقولة الشهيرة “أنا مش من هنا”
لا أعرف سر اعتذاري له، ولا سبب تسميته على اسم المعلم شعبان، ربما يكون اشتراكهم في ملامح الوجه الهاديء، واللهجة الصعيدية بما تحمل من جذور أصيلة، وأدب نفتقد جزء منه في كثير من معاملاتنا هو السبب، وربما طيبة وود في تعاملهم معي شخصيًا.
لكن ثمة تشابه ما يجمعنا، رغم قدومه مش الجنوب الطيب باحثًا عن ابنه، ورغم أنني قادم من الشمال أملًا في الحصول على فرصة للكتابة في إحدى الصحف، تجمعنا قسوة القاهرة، غربتها والتيه بين زحام أهلها. يجمعنا الأمل في أن يعود كل منا مجبور الخاطر .. يعود لأهله وقد فعل شيئًا ما يستحق ألم الغربة، وقسوة الرحلة، وفراق الأهل.
تابعته قليلًا بعد أن عدت لمقعدي في ركن المقهى وأنا حائر في أمره، ناظرًا إليه، مفكراً في حاله.
رجل تجاوز السبعين بقليل، يرتدي جلباب صعيديًا المشهورة بالأكمام الواسعة، ويغطي رأسه بطاقية مغزولة علي اليد، لعلها مجهود السيدة حرمه الست هدية بارك الله فيها لو كانت علي قيد الحياة ،أو ليرحمها لو كانت قد انتقلت إليه، فهو لم يوضح لي سوي اسمها وأنا أنظر لطاقيته ولونها في إعجاب. قائلًا: خالتك الحاجة “هدية” عملتها لي من 36 سنة، وهي اللي مختارة لي اللون ده.
كعادة أهل الصعيد يتزوجون مبكرًا، أنجب عم شعبان من زوجته هدية 7 من الذكور وثلاث من الإناث لم يفلح منهم سوي الدكتور عبد ربه شعبان أبو حسين، الذي ظل ناقمًا على اسمه حتى رحل.
ظل عم شعبان يعمل في أرض أبيه مع أشقائه حتي زوجهم جميعًا وتزوج، وبعدما أنجب الأبناء لم تتغير خطته. ظل على عهده مع الأرض، يزرع ويحصد ويبيع حتى زوج أبنائه.
لم يتمرد على تلك الخطة سوى صغيره عبد ربه، الذي ظل يتفوق حتى الثانوية العامة ليحصل على مجموع طب بشري ليفخر به أبيه في القرية ويدعمه.
دعوته للجلوس والراحة قبل أن يُنهي تناوله لكوب ماء مثلج طلبه من مساعد المعلم شعبان وهو يسأله على العنوان هو الآخر .. اعتذر الرجل بهدوء ولاد البلد، ولفة فالمسألة لا تحتمل التأخير.
أنهي دكتور عبد ربه دراساته بالجامعة لتأتيه منحة في لندن عاصمة الضباب. سافر وتفوق ليعود أستاذًا لقسم النساء والتوليد بجامعته، بالإضافة لعمله في عيادته.
لم يزر القرية منذ دراسته بالسنة الأخيرة بالجامعة، ورفض قضاء سنة الامتياز بالوحدة الصحية بقريته، وكانت صلته الوحيدة بأهله هي خطابات أخيه مسعود الذي كان يليه في سباق التعليم وتوقف عند الشهادة الإعدادية.
كان أخر ما أرسله لأخيه هو عنوان فيلته بمدينة نصر والتي لم يفلح والده في الوصول إليها كما عجز في السنوات الأخيرة في معرفة أي خبر عنه.
اختفى الرجل المسن ولم أعد أراه، غاب عن نظري كما غابت قصته معه، وأصبحت كأن لم تكن. لأفيق علي صوت أجش. تعرف العنوان ده يا بلدينا؟ أجيبه في الحال: والله ما أعرف. ليرمقني الرجل بنظرة لم أفهم مغزاها ويرحل.
لمتابعة أخبار موقع نساعد عبر google news اضغط هنـــــــــــا ، صفحة موقع نساعد على الفيسبوك اضغط هنـــــــــا وموقع تويتر اضغط هنــــــــــــــا
اقرأ أيضًا
وزيرة التضامن تعرب عن سعادتها لتعيين شاب من نزلاء دار أيتام معيدًا في كلية التربية الرياضية