عبد الله السبع يكتب .. الكتابة البارزة للمكفوفين “الحاجة أم الاختراع”
لا يأتي يوم الرابع من يناير في كل عام؛ إلا ويُثار جدال ونقاش بين المهتمين، حول حقيقة مخترع،
طريقة الكتابة البارزة لفاقدي البصر.. هل هو: العربيُّ “زين الدين الآمِدي” أم الفَرنسيُّ “لويس بِرايل”؟!
والمسألة في رأيي أكثر بساطة من ذلك! فالحاجَة أُمّ الاختراع.. كما يُقال؛ فما المانع أن أكثر من شخص قد توصَّل إلى الاختراع نفسه؟ وفي مقال سابق لنا عن “النظارة الطبية” تأكَّد لنا هذا الأمر؛ حيث أسهم اشخاصٌ عديدون من مختلف بِقاع الأرض، بل وفي أزمنة مختلفة.. لتصل إلينا النظارة الطبية على الشكل الذي نراه ونستخدمه اليوم.
قانونًا.. قبول الطلاب ذوي الإعاقة بنسبة 5% بالمدارس
والثابت أنه منذ اختراع الطباعة؛ ظلَّ الاشخاص الأكِفَّاء في العالم كله محرومين من القراءة.. حتى تمكَّن عالِمٌ عربيٌّ – كان مكفوف البصر؛ لكنه كان يتمتع بفَراسَة قوية، وذهن نابه، وبديهة حاضرة – اسمه “زين الدين الآمدي” أن يخترعَ لنفسه طريقة تساعده على القراءة، وكان ذلك في أوائل القرن الثاني عشر الميلادي، وأواخر القرن الثالث عشر الميلادي.
“الأعلى للجامعات”: تعميم مقرر التعامل مع ذوي الاحتياجات الخاصة بكل الكليات
كان زيد الدين يعمل بتجارة الكتب.. “ورَّاق” بلغة زمانه، وهداه ذكاؤه إلى ابتكار طريقة يتعرف بواسطتها على كل كتاب أو مخطوط يقتنيه في متجره؛ فقام بفتل حروف الأبجدية من ورق خفيف لتكون حروفًا بارزة. ثم يَقوم بلصق عدة حروف على ورقة؛ فتتشكِّل له جملة مفيدة.. فيُثبِّت تلك الورقة بمادة لاصقة على أغلفة الكتب الجلدية؛ فيَسهُل عليه معرفة عناوين الكتب وأثمانها وعدد المجلدات.. وذلك عبر مسِّ تلك الحروف البارزة بأصابع يدِه!
أيضًا؛ استخدم زين الدين الآمدي تلك الطريقة في تعليم عددٍ من الصبية مكفوفي البصر في بغداد.. قراءة الحروف والكلمات. وبذلك يُعَدُّ الآمدي تاريخيًّا؛ أول من اعتمد على حاسة اللمس ليمكِّن الأكِفَّاء من قراءة الكلمات والنصوص بواسطة أصابع اليد.
فرص لتدريب ذوى الاحتياجات بأول مركز متخصص في “الألياف الضوئية”
وُلِد عليٌّ بن أحمد بن أحمد بن يوسف بن الخضر؛ الشهير بـ “زين الدين الآمدي” في مدينة “آمـد” قرب ديار بكر، شمالي العراق حاليًا. أصيب بفَقْد البصر في صغره؛ لكنه اشتُهر بالفطنة والذكاء. رحل إلي بغداد بُغية تحصيل العلم، وهناك درس على أيدي شيوخ اللغة.
كان يُتقن اللغات: الفارسية والرومية والتركية والمغولية.. إلى جانب العربية بالطبع. عُرف عنه انشغاله بعلوم اللغة والهندسة، وكان أحد المُعلِّمين بالمدرسة المستنصرية في بغداد. وللآمدي مؤلفات كثيرة في اللغة والفقه وخلافه. تُوفي ودُفن ببغداد في عام (713هـ – 1314م).
وبعد أكثر من خمسمائة وثلاثين عامًا على وفاة الآمدي؛ وُلِد الفَرنسيُّ “لويس برايل” في قرية “توفري” بمقاطعة “سين إيمارن” قُرب باريس. وكان ذلك تحديدًا في العام 1809م.
وتُشير المعلومات المتواترة أن الطفل لويس فَقَدَ بصره صغيرًا؛ حينما كان يعبث بمثقاب الجلود الخاص بوالده – الذي كان يعمل في تصنيع منتجات جلدية – ففقأ إحدى عينيه، ثم ما لبث أن فقَدَ العين الأخرى بعد ذلك نتيجة عدوى.. وكان لا يزال دون سن الخامسة.
خطوة بخطوة .. طريقة استخراج كارت الخدمات المتكاملة
كان الطفل لويس مشهودًا له بالذكاء، ولم يمنعه فَقْـد البصر من أن يتعلم مثل أقرانه المبصرين؛ فالتحق بمدرسة قرب منزله، لكنه لم يستمر فيها؛ لأنه لم يكن يملك مصروفات تلك المدرسة. سافر لويس إلى باريس؛ حيث التحق بمدرسة داخلية للمكفوفين، وصُدِم عندما عَـرَف أن المدرسة لا يوجد بها سوى أربعة عشر كتابًا فقط يُمكن للمكفوفين قراءتها!
وكانت تلك الكتب ضخمة الحجم وذات حروف كبيرة، وغالية الثمن أيضًا.. فعكف لويس على قراءة تلك الكتب، لكنه كان يعاني من ذلك معاناة شديدة.. فما إن ينتهي من قراءة جملة؛ حتى يكون قد نسي بدايتها!
فدفعه ذلك إلى التفكير في طريقة أسرع يستطيع الاعتماد عليها في القراءة والكتابة.. فكانت “طريقة برايل”؛ التي تعتمد على نظام النقاط البارزة.
أشرف مرعي: القومي للإعاقة سيقدم تقرير للأمم المتحدة عن إنجازاته
استوحى لويس الفكرة أساسًا من ضابط بالجيش الفَرنسي؛ كان قد تَعرَّف عليه من قبل. وكان الضابط يستخدم طريقة خاصة به لإيصال التعليمات لجنوده ليلا؛ حيث يتمكنون من قراءتها من دون حاجة إلى أضواء.. وذلك بملامسة ورق عليه رموز بارزة بأطراف أناملهم؛ فينفذون تلك التعليمات!
ظل لويس يُفكر في طريقة يُعدِّل بها تلك الرموز؛ حتى تكون أسهل بالنسبة للمكفوفين. وبعد بحثٍ مضنٍ، وطول تفكير؛ جاءه وميضٌ من عبقرية! فأمسك بالمثقاب المعدني المُدبَّب الذي سبق أن فقأ به عينه وهو صغير؛ وعلى قطعة رقيقة من الجلد نقش بعض الرموز، ثم قلب قطعة الجلد على الوجه الآخر؛ ولمس تلك النقوش البارزة بأصابعه.. فتوصَّل إلى الحـل. إن المثقاب الذي أفقده بصره صغيرًا؛ هو نفسه الذي فتح به الباب أمام ملايين المكفوفين – فيما بعد – ليتعلموا من خلاله القراءةَ والكتابة عن طريق اللمس بتمرير أصابعهم على تلك الرموز!
مرحلتين وثلاث مستويات لتحديد الإعاقة طبقًا للقانون
بعد عشرة أعوام نشر برايل رسالة شرح فيها طريقته للكتابة البارزة؛ التي يهدف من وراءها إلى تعليم الكفيف القراءة بنفسه دون مساعدة من أحد.. لكنه واجه معارضة شديدة في مدينة لندن؛ حيث كان يعمل مدرسًا.
فقد كانت المدرسة التي يعمل بها، تُعلِّم المكفوفين عن طريق المشافهة! ولم تعترف بريطانيا بطريقة برايل إلا بعد 30 عامًا من اكتشافها. أما في فرنسا، فلم تُستخدَم طريقتُه إلا بعد وفاته، التي جرت في العام 1852م، عن عمر ناهز 43 عامًا. ومع الوقت، أُدخلت على طريقة برايل تعديلات وإصلاحات كثيرة في أوربا.
هل يعفي القانون مباني ذوي الإعاقة من التراخيص؟ المادة 31 تُجيب
.. تبقى نقطة مهمة؛ وهي أن طريقة برايل دخلت إلى اللغة في العربية على يد شخصٍ يُدعَى محمد الأُنسي؛ وكان ذلك في منتصف القرن التاسع عشر. حيث حاول التوفيق بين أشكال الحروف المستخدمة في الكتابة العادية وشكلها في الكتابة البارزة.
وبتلك الطريقة؛ تمكَّن الأُنسي من نقل عدد من الكتب إلى طريقة برايل؛ ليقرأها المكفوفون.. إلا أن ذلك لم ينتشر على نطاق واسع. ثم جاء آخرون وبذلوا محاولات عديدة لتطوير ما يتناسب من طريقة برايل واللغة العربية.
إلى أن قامت منظمة التربية والعلوم والثقافة التابعة لهيئة الأمم المتحدة [يونسكو] في عام 1951م؛ بتوحيد الكتابة البارزة، بقدر ما تسمح به أوجه الشبه بين الأصوات المشتركة في اللغات المختلفة. وقد نتج عن ذلك النظام المُستَخدم حاليًّا للرموز العربية على طريقة برايل.
ثلاث حالات لإعادة إصدار شهادة التأهيل
.. وختامًا؛
يتبين لنا من العرض السابق أن كلاً من “الآمدي” و”برايل” دفعتُه حاجتَه لاختراع طريقة يتمكَّن بها من القراءة، والتغلب على كف بصره.. ولا أرى وجهًا للعجب في أنهما يشتركان في الفكرة نفسها؟!
أما تفسيري لشهرة برايل التي طغت على أسبقية زين الدين الآمدي في التوصل لطريقة القراءة بواسطة لمس الحروف؛ فمرجعُها أن لويس برايل تبنَّى طريقته ودافع عنها لسنوات وعمل على نشرها، كما قام بتدريسها على طلابه؛ حيث كان مُدرسًا في معهدين للمكفوفين بباريس ولندن.
أيضًا.. واعترافًا بفضله؛ قام أهل بلدته “توفري” بعمل اكتتاب عام وأقاموا له تمثالاً في أحد الميادين بمسقط رأسه. وعلى المستوى العالمي؛ اختارت الأمم المتحدة، يوم مولده يومًا عالميًّا للغة برايل!
أما الآمِـدِي؛ فقد ضيَّعه تلامذتُه وقومُه؛ الذين لم ينقلوا طريقته المبتكرة ولا تراثه إلى الأجيال المتعاقبة، ولم يُخلِّدوا ذكراه.. وأحسب أن كثيرين اليومَ من أهل العربية؛ ربما لا يتمكَّنون حتى من نُطق اسمه نُطقًا صحيحًا!!
اقرأ أيضًا
موظف بـ”تأمينات المنشية” لمواطن: منعرفش حاجة عن منشور الوزيرة