عبد الله السبع يكتب .. تلفزيون مصر يبلغ سن التقاعد
في تمام السابعة من مساء يوم 21 يوليو من عام 1960م؛ انطلق أول إرسال تلفزيوني غطَّى مدينة القاهرة والمناطق المحيطة بها، حتى مسافة مائة كيلو متر في جميع الاتجاهات.
وتواكب بدءُ الإرسال مع الاحتفالات بالذكرى الثامنة لثورة 23 يوليو، وكان البث لمدة خمس ساعات، وافتُتِح الإرسال بتلاوة آيات من القرآن، ثم الانتقال لإذاعة خارجية حية لإذاعة حفل افتتاح مجلس الأمة، وخطاب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر على الهواء مباشرة، وأعقب ذلك إذاعة نشيد “وطني الأكبر”، ثم نشرة الأخبار. وكان الختام بالقرآن الكريم.
وفي عددها الصادر يوم 13 فبراير عام 1947م؛ كانت صحيفة «البروجريه» نشرت خبرًا عن اعتماد الحكومة المصرية مبلغ 200 ألف جنيه مصري لبناء استديوهات للإذاعة والتلفزيون، ولكنَّ المشروع تأجَّل تنفيذه. والدراسات التي أرَّخَتْ لنشأة التلفزيون، حدَّدت العام 1951م، باعتباره حمل أولى إرهاصات التلفزيون في مصر.
ففي ذلك التاريخ أجْرَت «الشركة الفرنسية لصناعة الراديو والتلفزيون» تجربة للإرسال التلفزيوني في محطة إرسال أقيمت في سنترال باب اللوق بالقاهرة؛ لتصوير الاحتفالات التي أقيمت بمناسبة الزواج الثاني للملك فاروق.
وقد رَوَّجَت الشركة الفرنسية لمشروعِها بوضع شاشات تلفزيونية في بعض الأماكن المهمة بالقاهرة، وأُقيم حفلٌ ساهر بهذه المناسبة دُعِي إليه عدد من الوجهاء، وظهر لأول مرة نقيب الصحافيين في ذلك الوقت (حافظ محمود) على تلك الشاشات ليوجِّه التحية إلى أعضاء البعثة الفرنسية .
في عام 1954م؛ عَرَض وزير الإرشاد القومي صلاح سالم (وقتئذ)، على الرئيس جمال عبد الناصر فكرة إنشاء محطة تلفزيونية فوق جبل المقطم. ووافق الرئيس عبد الناصر؛ فأوكلت مسئوليتها إلى المهندس صلاح عامر وكيل الإذاعة للشئون الهندسية. وقد اعتمدت حكومة الثورة المبالغ اللازمة لتنفيذ المشروع، ووقع الاختيار على قطعة أرض على كورنيش النيل، لإقامة مبنى الإذاعة والتلفزيون الحالي.
كما جرى العمل في تصميم الاستديوهات ودراسة إنشاء محطات للإرسال. وتطايرت الأنباء للعالم كله عن بداية بث مصر للإرسال التلفزيوني مع منتصف العام 1957م، ولكن من جديد تعطَّل تنفيذ المشروع بسبب العدوان الثلاثي على مصر.
لنجيء إلى العام 1959م؛ حيث صدرت تعليمات من الرئيس جمال عبد الناصر إلى وزير الإرشاد القومي (د. عبد القادر حاتم في وقتئذ)؛ بسرعة إدخال التلفزيون إلى الجمهورية العربية المتحدة. وعلى الفَوْرِ فُتِحتْ عطاءات المشروع من 14 شركة عالمية كبرى، وتمت الدراسة الفنية لتلك العطاءات خلال ثلاثة أشهر، وتبيَّن أن الصالح للمشروع من الناحيتين الفنية والاقتصادية هو العرض المُقدَّم من هيئة الإذاعة الأمريكية (R.C.A)؛ فاستقر الرأيُّ عليه.
وفي إنجازٍ يُشبِه الخيال؛ جرى الانتهاء من المشروع هذه المرة في غضون ستة أشهر على بداية العمل، لينطلق الإرسال التلفزيوني بمصر في يوم 21 يوليو من عام 1960م. وتزامن انطلاق الإرسال مع عودة بعثة مصرية من الخارج – مكونة من 15 مهندسًا – بعد انتهائهم من دراسة أحدث النظم الهندسية والإذاعية بمعهد دولي متخصص في نيويورك.
وفي أعقاب افتتاح مبني ماسبيرو؛ بدأ الإرسال الإعلامي المنتظم لهذا الوافد الجديد. وقد بلغت قوة الإرسال حينذاك 20 كيلو وات من محطتي الإرسال اللتين أُنشئتا فوق المقطم بارتفاع 300 متر فوق سطح البحر.
ثم في يوليو عام 1962م؛ أُنشئِتْ محطةُ إرسال أسوان في محاولة لتعميم الإرسال لتغطية المناطق النائية. وقد بلغ إرسال المحطة ثلاث ساعات يوميًّا، وكانت شرائط المواد المُصَوَّرة تُنْقَل عَبْر القطار من ماسبيرو إلى أسوان.
كما بدأت الدولة في تصنيع أجهزة تلفزيون ماركة «النصر»، وكان صندوق الجهاز الخارجي مصنوعًا من المعدن؛ ثم ظهرت بعد ذلك أجهزة تحمل ماركة «تليمصر». وما هي إلا سنوات حتى انتشرت تلك الأجهزة إلى منازل مختلف الطبقات، وتسابق الناس بأنحاء الجمهورية على شرائها، حتى صار اقتناء جهاز تلفزيون أمنيةً يسعى الكثيرون إلى تحقيقها؛ حيث كان ثمن الجهاز قرابة 35 جنيهًا!
وكانت أحجام الأجهزة تبدأ من (14) بوصة، مرورًا بـ (17) بوصة، و(20) بوصة.. والأخير لم يكن يقتنيه سوى عِلية القوم، أو النوادي والمقاهي؛ حيث يتجمع فيها العشرات لمشاهَدة هذا الجهاز السحري المثير!
وكان الجهاز يجري تشغيله بإدارة مفتاح التشغيل المُثبَّت في واجهة الجهاز، ولم تكن الصورة تظهر على الفَوْر؛ بل كانت تأخذ وقتًا حتى تظهر، ريثما تُنير فتيلة اللمبات الداخلية. ولمواجهة إشكالات تنقية الصورة؛ كان يتم استخدام «أريل» صغير يُوضع فوق جهاز التلفزيون، أو «أريل» كبير يجري وضعه فوق أسطح المنازل.
استهل التلفزيون إرساله بقناة واحدة، بإشراف الإعلامي الراحل صلاح زكي. وتمثَّل هدفُها في الوصول إلى القاعدة العريضة من أبناء الشعب، وإمدادها بالأخبار المحلية والدولية والبرامج الخدمية والرياضية وبرامج المرأة والثقافة العامة والمواد الترفيهية.
وكان زمن إرسال القناة الأولى محدَّدًا، بمعدل 6 ساعات يوميًّا؛ يبدأ في السابعة مساءً، ويستمر إلى ما بعد منتصف الليلً.
وبعد عامٍ واحد؛ أَطلق التلفزيون قناته الثانية، بإشراف الإعلامية الراحلة همت مصطفى. وتمثَّل هدفُها في أن تًصبح نافذة على الثقافات الأجنبية بألوانها وفنونها المختلفة.
أحدث دخول البث التلفزيوني إلى مصر تحولات كبيرة في المجتمع وحياة الأفراد. فقد حجزت الشاشة الصغيرة لنفسها مكانًا ثابتًا في البيوت وفي السهرات اليومية؛ حيث يتحلَّق الجميع أمامها في حفلة مشاهدة عائلية ممتعة. وبرغم تواضع إمكانات ذلك الزمان؛ فإن تلك البرامج كانت مصدر تسلية وتثقيف.. يفتقدهما اليوم – في رأيي – معظم الناس!
ولعل هذا يطرح تساؤلاً؛ وهو: ما الوظيفة التي جاء التلفزيون ليؤدِّيَها؟ بمعنى آخر: هل جاء التلفزيون لتحقيق رسالة معينة، أم أنه كان مجرد شاشة أبيض واسود يجلس أمامها الناس؛ للترفيه وتَزْجية وقت الفراغ؟
ويمكننا الإجابة، بأن التلفزيون كان في بداياته: وسيلة تثقيف وتربية، وترفيه وتنمية؛ حيث تزامَن ظهورُه مع ذُرْوَة المد القومي والثوري، وقد جاء التلفزيون لينشر الصورة المرجو تحقيقُها للمجتمع الحديث والمنشود.
في سبتمبر عام 1976م؛ بدأ الإرسال الملون. ومع الصورة الملونة بدأ العصر الذهبي للتلفزيون؛ فقد ظهر على شاشته العديد من النجوم – الإعلاميين والفنانين – بالإضافة إلى الذين كانوا قد صعدوا من عهد الأبيض والأسود. وقد تواكب مع هذا تنوع البرامج والخِدْمات، وامتداد التغطية بالإرسال لتشمل أنحاء الجمهورية بطولها وعرضها.
وبرغم أن القنوات لم تكن تحمل أي «لوجو» يُميِّزُها – كما هو حادث في أيامنا – ولا يمر بشاشاتها شريطٌ للأخبار ينقل أحداث العالم لحظة بلحظة؛ فإن التلفزيون – في ذلك الزمان – أصبح يَعني الكثير للمجتمع بما قدمه من برامج وأعمال درامية لا تزال في الذاكرة.
فلقد كان التلفزيون المصري جزءًا من الحركة الفنية والثقافية الأوسع في المجتمع. ولم يكن مجرد شاشة عرض فقط؛ لكنه كان يوائم دومًا بين ما يقدمه وبين تقاليد الأسر التي يدخل إلى بيوتها كل ليلة.
ولا جدال أن مصر هي الدولة السَّـبَّاقة في مجال الإعلام في محيطها العربي والإفريقي؛ فقد كانت هي الرائدة في إدخال الإذاعة منذ أكثر من 85 عامًا. وفي بعض الأزمنة كان إرسالها الإذاعيُّ يُغطِّي جزءًا كبيرًا من العالم من خلال الإذاعات الموجهة، الذي شمل 8 مناطق رئيسية في العالم باستخدام 35 لغة و48 خدمة إذاعية، كما كانت هي أول دولة في محيطها أنشأت وكالة وطنية للأنباء، وأول دولة في محيطها تُطلق قمرًا إلى الفضاء.
وربما لم تكن مصادفةً أن يحمل التلفزيون المصري منذ لحظة ميلاده اسم: التلفزيون العربي؛ حيث حدَّد القائمون عليه منذ البداية رسالته. ولذا؛ فقد كانت شاشته تجذب الملايين في العالم العربي؛ متحلقين مترقبين لما سيُقدَّم عبرها من برامج وأعمال درامية خالدة.
.. لكن – وللأسف – فها هو التلفزيون المصري قد بلغ اليوم سن الكهولة؛ بما يُصاحبها من أوجاع معروفة! وأرى أن العيد الستيني للتلفزيون يبنغي أن يكون مناسبة نقف عندها، لتأمل ما أنجزه هذا الصرح الكبير منذ إنشائه وإلى الآن، ودوره المفترض فيما ما نتطلع إليه اليوم من طموحات وآمال.
ولا شك أن المهمة الملقاة على عاتق الإعلاميين اليوم؛ أصعب بكثير بفعل المنافسة والإبهار، وفي ظل التطور التكنولوجي المتلاحق في مجال الاتصالات وأجهزته الصغيرة التي باتت في كل يد! وأيضًا في وقتٍ تشهد فيه صناعة الإعلام تنافسا ضاريًا، ويحاول الكلُّ جاهدًا أن يفرض وجوده على ساحة الإعلام العالمية.
وكغيري من العاملين في الهيئة الوطنية للإعلام؛ أرجو أن يشهدَ تلفزيون مصر انطلاقة جديدة؛ تُعيد له شبابه وحيويته، وتليق بتاريخه وبمكانته المرموقة التي حفرها لنفسه منذ أكثر من نصف قرن في المنطقة العربية بأسرها. وهذه ليست أمنية مستحيلة؛ بل يُمكِنُ جدًّا تحقيقُها، إذا تكاتفت كل القوى المُحِبَّة لهذا البلد، والمخلصة لإعلامه الحكومي.. إعلام الشعب.
ولا جدال أن مصر تذخر بالمخلصين الجادين الأمناء في كل المواقع، وماسبيرو بدوره لا يعدم الموهوبين وأصحاب الكفاءات.. لكنهم في حاجة إلى من يثق في قدراتهم.
وإن كان رئيس الجمهورية بإرادته الماضية، وروحه الوثابة.. يُسابق الزمن؛ ليَخلُق على أرض مصر منارات معمارية عملاقة من العدم.. أفلا نطمعُ أن يَنْفُثَ في مبنى ماسبيرو – القابع في كبرياء على نيل مصر يُعاني من تَقلُّبِ الأيام – بعضًا من تلك الروح والإرادة، لتُعيده إلى الحياة من جديد؛ وفاءً وعرفانًا لتاريخ ذلك المبنى وأدواره المجيدة في حياة الوطن، وتأكيدًا على أهمية إعلام مصر؛ بما له من مسئولية وأمانة؟
اقرأ أيضًا
أسعار تذاكر السكة الحديد 2020 .. وحقيقة زيادة تذاكر القطارات
مواعيد صرف معاشات أغسطس قبل عيد الأضحى
الري: أزمة سد النهضة ليست سهلة ولن نقف مكتوفي الأيدي والرئيس يتابع المستجدات
الصحة: أرقام كورونا أثبتت توقعات الوزارة ويجب الالتزام بالإجراءات الاحترازية وارتداء الكمامات