سلايدرمقالات الرأى

عبد الله السـبع ..شيخـي: “أمشي بنور الله”

 

 

ربَّما تكونُ عيناك قد وقعتْ عليه ذات مرةٍ؛ وهو يَشقُّ طريقَه وحيدًا وسط زحام البشر – غير عابئ بأرتال السيارات؛ التي تَمْرُق حولَه بلا ضابط أو رابط – سائرًا بكل ثبات وطُمأنينة! فالشيخُ اعتاد أن يَمـرَّ يوميًّا بميادين القاهرة المزدحمة؛ كالعتبة، أو الألف مسكن، أو ميدان المطرية.. في طريقه لمنطقة الدرَّاسة؛ حيث مسجدي: الحُسين والأزهر.

وربَّما قد تراه أيضًا في منطقة شبرا الخيمة؛ حيث يحرِصُ على تَفقُّد أحوال أخته التي تَعـرُّض زوجها – سائق أتوبيس سياحي – لحادث مأساوي منذ عدة سنوات؛ أسفر عن بتر أحد ذراعيه.

إنه شيخي “السيد محمد عوض علي”؛ الذي أحسبُه أحدَ مشاهير السَّـماء. في الأسبوع الأخير من شهر أكتوبر عام 1950م، وفي حي الأربعين بالسويس؛ وُلِـدَ الشيخُ لأبٍ كان يعمل بشركة النصر للبترول.

جاء الشيخُ “السيد عوض” إلى الدنيا محرومًا من البصر، ولم يكن ذلك هو الحرمان الوحيد الذي واجهه.. فقَد حُرم أيضًا من رعاية الأمِّ وحنانها وهو في تلك الظروف؛ حيث انفصل أبواه في سنوات طفولته المبكرة جدًّا. وغادرت أمُّه السويس إلى الإسكندرية عند أشقائها.. وهناك تزوجت مرةً أخرىٰ وكوِّنت أسرة جديدة، وتشغلها الحياة في الإسكندرية؛ لدرجة تنسىٰ معها طفلَها الكفيف!

وبعد بحثٍ من جانبه؛ يعثر عليها الابن “السيد عوض”؛ وهو شابٌ يافع قد بلغ من العمر 26 عامًا، ويذهب لزيارتها بمنطقة السِّيوف.. وكان ذلك بمساعدة زميل إسكندراني؛ من دارسي الأزهر!

برلين على موعد مع انعقاد “برلمان المعاقين”

يقول الشيخُ: “في طفولتي لم أدرس في مدرسة نظامية، بل كان يأتيني مُحفِّظٌ خاص في البيت؛ حتىٰ أتممتُ حفظ القرآن كاملا في سن 12 عامًا. وقد أشار البعض على أبي (يرحمه الله) بأن يُلحقَني بمعهد للموسيقَىٰ، وبالفعل ذهبتُ لأحد المعاهد بمدينة السويس، لكني لم أمكث فيه سوىٰ أيام قلائل. ثم نصح أحدُ المخلصين أبي؛ قائلا له: أنتَ تُضيِّع على ابنك اجتهاده في حفظ القرآن، والأفضل له أن يلتحقَ بالأزهر”.

وبالفعل اصطحبني “عم جلال”؛ صديق أبي – وكان موظفًا ببريد السويس – إلى القاهرة، ومعي أوراق التقديم في الأزهر. وبعد خضوعي لامتحان شفوي؛ جرىٰ قبولي في الصف الأول الإعدادي بمعهد الدرَّاسة الأزهري؛ وكان ذلك في العام 1962م.

عن تلك الفترة يحكي الشيخُ قائلا: “سارت بي الحياة سهلة والحمد لله؛ أذهب للمدرسة صباحًا، وأعيش في مسكن طلابي مشترك. وهناك يقوم زملائي الأزهريون بمساعدتي بقراءة المواد الدراسية لي، ثم أخضع للامتحان شفويًّا. وفي نهاية العام الدراسي أقضي الإجازة الصيفية في السويس”.

يتابع: “أتممتُ مرحلة الشهادة الإعدادية في العام 1966م؛ وفي العام التالي وقعت نكسة 67 وجرىٰ تهجير أسرتي إلى قرية “باسوس” في القليوبية، وكان الذهاب إليهم أيسر من الذهاب إلى السويس. وفي العام 1970م حصلتُ على الثانوية الأزهرية، ثم ألحقني مكتب التنسيق بكلية أصول الدين، التي تخرجت فيها عام 1974م. وكان تخصصي كالتالي: (الإجازة العالية من كلية أصول الدين – قسم حديث وتفسير)، بتقدير جيد”.

يقولُ شيخي: “كانت دفعتي محظوظة؛ فقد خطفونا على التعيين فور تخرجنا.. بل حتى ونحن طلبة؛ فإن شيخ الأزهر وقتئذ الراحل الدكتور عبد الحليم محمود؛ كان قد فتح أمامنا باب العمل. حيث جرىٰ إلحاقنا ببعض المساجد نؤم المصلين في صلاتي المغرب والعشاء، ونخطب الجمعة أسبوعيًّا؛ وذلك مقابل الحصول علىٰ مكافأة خمسة جنيهات شهريا. كما كنتُ أحصل أيضًا على أربعة جنيهات أخرىٰ من الشئون الاجتماعية؛ باعتباري من مهجري مدن القناة”.

ويتذكر الشيخ قائلا: “كانت أول خطبة جمعة لي في حياتي وأنا طالب بالفرقة الثانية بالكلية، وكان ذلك في مسجد اسمه “الطبَّاخ” بمنطقة باب الشعرية، وكنتُ أرتعش وأنا أقف على المنبر، ولم أدرِ ماذا قلتُ يومها”!.

بينهم أسرة ذوي الإعاقة.. المستندات والإجراءات لحصول الفئات المستحقة للدعم النقدي من بنك ناصر

بعد تخرجه؛ عُيِّن الشيخُ في مسجد اسمه “سودون القصراوي” بمنطقة الباطنية في حي الدرب الأحمر.. وكان ذلك في عام 1975م. وقد مكث الشيخ إمامًا لذلك المسجد قرابة 13 عامًا؛ حتى نُقل إلى مسجد “الغزلاني” بعزبة النخل، وظل به حتىٰ خرج إلى المعاش في عام 2010م.

ويتذكر الشيخ السيد عوض: “كنتُ قد فزتُ في مسابقة ثقافية أجرتها وزارة الأوقاف؛ وكانت مكافأتي أن انتُدبتُ لعدة شهور في مساجد تتبع الأوقاف في شمال سيناء؛ وتحديدًا في مدينتي: العريش ورفح. وكان ذلك في ثمانينات القرن الماضي”.

تزوج الشيخُ في العام 1979م. ويقول عن أول لقاء له بعروسه: “إنني أخبرتها بأني قد أكون عبئًا عليها لأني عاجز البصر؛ فقالت (يرحمها الله): رضيتُ بظروفك، ولو كنتُ مكانك لرجوتُ الله أن يرزقني برجلٍ يَرفُق بي ويختارني زوجة له”. يقول الشيخُ السيد عوض: “الحقُّ أنها وقَعتْ في قلبي موقعًا حسنًا، وكبُرَتْ في نفسي”.

ابتُلي الزوجان بفَقْد مولودتِهما الأولى “فاطمة” وهي رضيعة في عمر خمسة شهور. لكنَّ الله عوَّضهما بابنٍ أطلقا عليه اسم: “محمد”، وأكرمهما الله لاحقًا بحفيدين: “سهيلة”، و”مالك”؛ اللذين يحفظان القرآن على يَديْ جَدِّهما.. الذي لا يُخفي أن “سهيلة” أشطر من “مالك”، المشغول دائمًا باللعب والشقاوة.

يقول الشيخُ عن حفيديه: “إنهما يُعيدانني إلىٰ طفولةٍ لم أعشها، ويَخطفان الطاقية من علي رأسي، ويمتطيان كَتفي”!

أسأله عن الشخصيات التي لا ينساها أبدًا.. فيحصرها في اثنين؛ هما: “العالم الربّاني صالح الجعفري؛ وهو شيخٌ أزهري، تعود أصوله إلى بلدة دُنقلا بشمال السودان. وكان قد وفد إلى مصر وعاش فيها ودُفن في أرضها. وكان يَعرفني معرفة شخصية؛ فقد كنتُ أحرص على حضور مجلسه الشهير في الأزهر بعد صلاة الجمعة؛ حتىٰ توفاه الله في أواخر سبعينيات القرن الماضي. وإلى الآن لا يمر أسبوع إلا وأذهب إلى المسجد الذي به مَقامُه بمنطقة الدرَّاسة”.

يتابع الشيخُ السيد عوض: “أما الشخصُ الثاني؛ فهو فضيلة الشيخ الراحل إسماعيل صادق العدوي؛ خطيب الجامع الأزهر السابق. وكان يَعرفني أيضًا معرفة شخصية؛ حيث كان يرحمه الله من سكان منطقة الباطنية؛ التي سكنتُها وعُينتُ بأحد مساجدها في بداية حياتي”.

أسأله: ألم يُشعرك فَقْد البصر باليأس والعجز في حياتك قَط؟ يُجيب: أحيانًا؛ خاصة عندما أحتاج إلى من يقرأ لي أوراقًا خاصة، أو عنوانًا أريد التوجه إليه.. لكني في العموم راضٍ بقضاء الله فيَّ. والصبر والرضا بقضاء الله؛ يمنحان المسلمَ سعادة واطمئنانًا. وفي تراثنا الديني أن البعض كان يفرح بالمصيبة، كما يفرح بما يَسرُّه؛ لأنه يعلم أنها من عند الله.. ثم يُتمَّتِمُ بالآية الكريمة: “وما عند الله خير وأبقىٰ للذين آمنوا وعلىٰ ربهم يتوكلون” [الشورىٰ: 36]. ويستشهد بقول النبي (صلَّىٰ الله عليه وسلم) في الحديث الصحيح: “إِنَّ عِظَمَ الْجَزاء مَعَ عِظَم الْبلاءِ، وإِن اللَه عزَّ وجَلَّ إِذَا أَحبَّ قَومًا ابتَلاهم، فمن رضيَ فَلَه الرِّضا، ومن سَخِط فَلَه السَّخَطُ”. ويشرح الحديث قائلا: إن الابتلاء اختَبار بالمِحَنِ والمصائبِ، فمَن قابَل هذه البلايا بالرِّضا والصبر ولم يتذمر معترضًا على قَدَر الله؛ فإن الله سبحانه تعالى يَرضىٰ عنه، جزاءً لرضاه.

أسأله عما فاته، ولو أن الحياة عادت به من جديد لفعله فورًا؛ فيقول: للأسف تقاعستُ عن تعلُّم طريقة برايل، وأعرف زملاءً لي يكتبون اللغتين: العربية والإنجليزية.

ولأنه يتعامل مع الحياة من خلال أذنيه.. فإنه كثيرًا ما يُرَىٰ مُنزويًّا بأحد أركان المسجد؛ مستمعًا إلىٰ “راديو ترانزستور”.. لا يفارقه أبدًا. وعن ذلك يقول: “أحبُّ الاستماع إلى الإذاعة؛ خاصة شبكة القرآن الكريم”. ويُحمِّلُني رسالة لزملائي في الإذاعة؛ مفادُها:

أولا: ألا يستشهد أحدُهم بحديثٍ وينسبُه للنبي؛ إلا ويُبيِّن مصدرَه من كُتب الصِّحاح.

ثانيًا: ألا يقاطع المذيعون ضيوفَهم وهم يتحدثون، وأن يُعطوهم الفرصة كاملة لإبداء آرائهم.

ثالثًا: ألا يخلطوا كلماتٍ أجنبية بلغتنا العربية، أما المصطلحات الأجنبية الضرورية التي تَرِد في الأخبار مثلا؛ فينبغي شرحُها، وتفسيرها بمترادفات عربية.

أطلب منه أن يُوجِّه نصيحة لقراء موقع “نساعد” الإلكتروني؛ فيقول: أنصحهم بملازمة القرآن ليلا ونهارًا، وأن يعملوا بما جاء فيه.. فالقرآن دواء، وذكر الله شفاء.

أختم حواري معه؛ مُداعبًا له ومُبديًا إشفاقي عليه لكثرة تَرَجُّـلِهِ في الميادين المزدحمة.. وهو الرجل السبعيني العمر؛ حيث يجوب القاهرة يوميًّا من شرقها إلىٰ غربها من دون مُعاون يأخذ بيده؛ ضمانًا لسلامته.

.. فيُجيبُني قائلا: “لا أحب الجلوس في البيت، ولن أَكفَّ عن المشي إلىٰ أن يتوفانيَ الله وهو راضٍ عني.. وقد تعودتُ علىٰ السير وسط الزحام وحدَي، والحمد لله أعرِفُ طريقي جيدًا؛ لأنني ماشي بنور الله”.

 

الشيخ السيد عوض
الشيخ السيد عوض

مقالات ذات صلة

ما تعليقك على هذا الموضوع ؟ ضعه هنا

زر الذهاب إلى الأعلى