عـبد الله السبع يكتب .. رمزية الألوان في خطابنا اليومي
“الجمعة السوداء”؛ ذلك هو التعبير الذي تفتق عنه ذهن خبراء التسويق مؤخرًا، ترويجًا لعروضٍ تشمل تخفيضات هائلة على بيع المنتجات في أحد أيام الجمعة من نهاية العام بأسعار تقل عن مثيلاتها في بقية الأيام!
تاريخيًّا – وطبقًا لمحركات البحث الإلكترونية – فإن مصطلح “Black Friday” استُخدم لأول مرة في مقال نشرته جريدة “نيويورك تايمز” عام 1870م، للإشارة إلى انهيار سوق الذهب في العام السابق على ذلك التاريخ.
وتسبَّب انهيار سوق الذهب عام 1869م؛ في أزمة مالية صاحبها ركودٌ في الاقتصاد الأمريكي، وتوقف حركة البيع والشراء. ولكي تُواجه الحكومة الأمريكية تلك الأزمة؛ اتخذت العديد من الإجراءات.
من بينها عرضُ المنتجات والسلع بأسعار مُخفّضة جدًّا مع قدوم إحدى المناسبات؛ لجذب أعدادٍ كبيرة من المستهلكين للشراء، ومن ثمَّ تقليل الخسائر. وكانت تلك العروض تجري غالبًا في اليوم التالي لعيد الشكر.
ومنذ ذلك الوقت؛ أصبح تخفيض الأسعار حدثًا سنويًّا في أمريكا، حيث تقوم المتاجر والمحال الكبيرة بتقديم عروض وتخفيضات قد تصل نسبتها أحيانًا إلى 90%.
وأصبحت “الجمعة السوداء” علامة تجارية جديدة تُمكِّن التجار من التخلص من بضائع راكدة، وحصد مكاسب خلال أيام معدودة.
وكان الناس يتدافعون على الشراء؛ اغتنامًا لتلك الفرصة، حتى درَجت شرطة مدينة “فلادلفيا” الأمريكية – منذ ستينيات القرن الماضي – على تسمية ذلك اليوم “الجمعة السوداء”؛ نظرًا لما كانوا يعانونه من تكدس مروري في الشوارع، وزحام شديد أمام المتاجر!
يوم الجمعة في الإسلام
أما في الإسلام؛ فلقد سُمِّي هذا اليوم بذلك الاسم لاجتماع المسلمين فيه كل أسبوع؛ تلبية لنداء المولى عزَّ وجل: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ الله وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ”. [الجمعة: 9]
وهو من خير الأيّام؛ فعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى اللهُ عليه وسلم: “خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ”. [رواه مسلم]
ومن فضائل يوم الجمعة أيضًا أن فيه ساعة لا توجد في غيره، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “فِي الجُمُعَةِ سَاعَةٌ لاَ يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ قَائِمٌ يُصَلِّي، فَسَأَلَ اللهَ خَيْرًا إِلا أَعْطَاهُ”. [رواه البخاري]
لقد اختار الله عز وجلَّ يوم الجُمُعة ليكون سيد الأيام وأفضلها، لدى أمة الإسلام. وقد ورد عن النبي صلى اللهُ عليه وسلم أنّه قال: “أضلَّ اللهُ عن الجُمُعة مَن كان قبلَنا.
فكان لليهودِ يومُ السبت، وكان يومُ الأحدِ للنصارى، وجاء اللهُ بنا، فهدانا ليوم الجُمُعةِ”. [رواه مسلم]
“الجمعة” يومٌ ارتبط بديننا. وتُرجَّح مصادر؛ أن مُسمَّاه لم يُعرف قبل الإسلام. كما أن هناك سورة كاملة في القرآن تحمل اسم “الجمعة”!
الحقيقة أن خَصَّ يوم الجمعة دون غيره بالسواد أثار رِيبتي! ولمَّا قمتُ بإطلالة على دلالات الألوان؛ اكتشفتُ أنه علمٌ له رموزه. يقول المتخصصون في هذا العلم: إن اللون من أهم العناصر التي تُشكِّل الصورة الذهنية.
يُضيفون: إن لكل لون معنًى نفسيًّا، والأسود تحديدًا هو لون الظلام، ويُعبِّر عن: اليأس والخيبة والفناء! وهو رمزُ الحزن والهم والموت والإخفاق، والظلم والضلالة والغضب والإثم والكفر!
ربما يحتجُّ البعض؛ بأن الأسودَ مَلِكُ ألوان ملابس السهرة للجنسين في عالم الأزياء؛ حيث هو عنوان الأناقة واللقاءات الرسمية. ونُجيبهم بأن للألوان دلالات رمزية لا يمكن تجاهلها؛ فهي تحمل إرثًا ثقافيًّا، حتى في التعامل اليومي عند العامة.
فجميعُنا مثلا يعرِفُ أن الحمامة البيضاء تحديدًا هي التي اشتُهرت بأنها رمز السلام والمحبة عبر الأزمان؟ مع أن كل فصائل الحمام أليفة ووديعة وجميلة؛ لكن اللون الأبيض هو الذي أكسبها تلك الرمزية الدالة!
ودرج الناس في بعض بلداننا على تبادل التحية أول الصباح بعبارة: “نهارك أبيض”، كما شاع بينهم تعبير: “على ميه بيضا” حال عقد اتفاق أو إعطاء وعود! وتوافقت المجتمعات الإنسانية على أن تكون فساتين الزفاف بيضاء اللون، وكذلك أكفان الموتى!
اللون الأبيض لون تطمن له النفس
لا جدال إذن أن “الأبيض” لفظٌ يُوحي بمعنى تطمئنُ له النفس، وتُحسُّ معه بالصفاء والسكينة، كما يبعث فيها التفاؤل والسرور، وأنه لونٌ يُشعِر المتلقي بالنقاء والوضوح.
ولقد ورد ذكر اللونين الأبيض والأسود في القرآن الكريم بهذا المضمون.
يقول الله تعالى: “وَأَمَّا الَّذِين ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُون”. [آل عمران: 107]، ويقول سبحانه في وصف خمر الجنة: “بَيْضَاءَ لذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ”. [الصافات: 46]
فالأبيض لون وجوه أهل السعادة يوم القيامة، ولون مشروبات أهل الجنة. عكس الأسود؛ الذي هو لون وجوه أهل النار من العصاة والكفار والكذابين على الله.
وهو اللون الذي يُوحي بالكرب والهم، والفَناء وظُلمة الليل. يقول سبحانه: “وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى الله وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ”. [الزمر: 60].
وقد استخدم القرآن كلا اللونين في سياق واحد ليُظهرَ التمايز الشديد بينهما.
في قول ربنا: “يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ”. [آل عمران: 106]. والخلاصة: أن الأبيض يعاكس الأسود في كل دلالاته!
وفي بيان رمزية الألوان؛ نستخلص الآتي:
الأخضر: رمز الخير، الحياة والأمل، الخصب والنماء.. ولا عجب إن كان هو لون الطبيعة والشجر والزروع. وهو لونٌ شائع جدًّا في الجنة؛ في لباس أهلها، ولباس الولدان المُخلَدين فيها، وهو لون أغطيتها ووسائدها.
الأحمر: لون يرمز إلى: القوة والبأس، التفاؤل والشباب، الحب الملتهب. ولهذا اللون إسقاطات على حياتنا؛ ففي الذائقة الشعبية.
حينما يُومئ أحدُهم بقضاء ليلة صاخبة يصفها بأنها كانت “سهرة حمراء”، وحين يُهدِّد غيرَه يتوعده بأنه سيريه “العين الحمراء”!
الأصفر: يَظن البعض أن الأصفر لون المرض، والمُعبِّر عن الكراهية والغل، عندما يصفون مَن لا يرتاحون إليه بأنه “أصفراوي”. لكنه بالفعل لونٌ منير ومثير للفرح والبهجة.
ويعتبره خبراء الألوان أكثر الألوان إضاءة ونورانية، واستُخدم في القرآن بهذا المعنى في قول الله تعالى: “قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ”. [البقرة: 69]
الأزرق: لون يُحدِّد الأبعاد، ويُعطي شعورًا بالعمق، ويبعث على الهدوء والسكينة. وهو اللون الوحيد الذي تصطبغ به أجزاء من البحار والسماء. ويرمز إلى الصدق والحكمة والإخلاص.
وجاء استخدامه في القرآن بعكس تلك المعاني؛ ليُشكِّل إعجازًا. فقد قال الله تعالى: “يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا”. [طه: 102]؛ وعلميًّا فإن الدم يتحول إلى اللون الأزرق عند احتباس الأكسِچين الشديد وفساده.
وفي ذلك تصوير بليغ للصورة التي سيكون عليها الكافرون يوم القيامة؛ من شدة الخوف والرهبة والوجل.
في اللمحة السابقة؛ يتبين أن للألوان معانيَ لا يمكن تجاهلها، وأن للون الأسود رمزيةً سلبية. ولذا فأنا أُبدي تحفظًا على إشاعة مصطلح “الجمعة السوداء” على عروض تسويقية؟
وقناعتي أن الزج به على الألسنة لا يحمل مقصدًا بريئًا تمامًا! وهذا ما نُفصله في مقالٍ تالٍ إن شاء الله.
اقرأ أيضًا
آمنة نصير تزعم جواز زواج المسلمة من غير المسلم والأزهر والإفتاء يردان
أخر قرارات مجلس الوزراء..إعفاء المستشفيات من فواتير الكهرباء من بينها( 17 قرارًا)