عبد الله السـبع يكتب .. قصة سَـمَّاعة الأُذُن
الزمان: السنوات الأولى من سبعينيات القرن الفائت.
المكان: مدرسة الخطيب الابتدائية؛ التابعة لإدارة شربين التعليمية، في محافظة الدقهلية.
في ذلك الزمان، وفي ذاك المكان، وقَعتْ عيناي لأول مرة على سماعة أذن؛ حيث كان يستخدمها زميلي في “التختة” التي أمامي “مراد البربري ”
صباح كل يوم، كان مراد بمجرد أن يجلسَ إلى مكانه في الفصل؛ يُخرج من حقيبته – بحِرص زائد – صندوقًا خشبيًّا صغيرًا، ويسحب منه دُرجًا؛ فتظهر قطعة ذهبية مستطيلة في حجم علبة السجائر، يضعها أمامه على التختة؛ ثم يقوم بفَردِ الأسلاك الخارجة منها، والتي تنتهي بقوقعتين صغيرتين؛ فيضعَهما في أذنيه! ونحن نتابعه بشغف، وقد بلَغتْ منا الدهشةُ مَبلغَها!
مُدرِّس الدراسات؛ الأستاذ/ كامل أسعد؛ كان يحلو له أن يُمسكَ بتلك القطعة الذهبية، ويُقـرِّبُها من فمه – كأنها مايك – ويشرح من خلالها طوال الحصة؛ ظنًا منه أنه يُقدِّم خدمة لتلميذه، وأنَّ صوته يصل إليه أوضح؛ عبر الأسلاك!
لم أكن في ذلك الوقت أُدرك تمامًا أن زميلي مراد واحدٌ من أصحاب الظروف الخاصة؛ وأنه مبتلىً بفَـقْـد إحدى النِّعم الكبرى، التي لا يمكنه من دونها التواصل مع الكون والناس والأشياء؛ ألا وهي: نعمة السَّـمع!
ففي تلك الأيام؛ كان المجتمع لا يتوقف كثيرًا عند تلك الفئة من ذوي الاحتياجات؛ ويُهوِّن الناس من أمر الذي يُعاني مشاكلَ في السمع بعبارة مسطحة؛ ألا وهي: “أصل سمعه تقيل شوية”!
لكني، وقبل عقدين من الزمن؛ اهتممتُ بفئة ذوي الاحتياجات الخاصة. فقد كنتُ أَعدُّ عنهم مادة تحريرية تُذاع على شاشة قناة المعلومات المرئية بالتلِفزيون المصري؛ تحت عنوان: “طريق الأمل”، وحينها عرَفتُ مدى معاناة تلك الفئة، ومعاناة مَن حولَهم. حيث إن حاسَّة السَّمع؛ هي الوسيلة التي من خلالها يتعلم الطفل النطق والتواصل مع العالم من حوله. فإذا وُلِد أصمَّ؛ فحتمًا سيُعاني مشاكلَ: لُغوية واجتماعية وصحية.
فمن حيث اللغة؛ فإن كلامه لن يكونَ منطوقًا بشكلٍ طبيعي؛ لعدم اكتسابه رصيدًا لُغويًّا عن طريق السَّماع، وبالتالي يكون الطفل الأصمُّ مُعـرَّضًا للإصابة باضطرابات سلوكية. وهذا يضره اجتماعيًّا؛ حيث قد يَعـزُف عن الاندماج مع المجتمع المحيط به؛ لعدم قدرته على مجاراتهم في الكلام!
أما صحيًّا؛ فتؤكد أبحاثٌ علمية أن حاسة السمع هي التي تُحرك باقي الحواس؛ مثل: الرؤية والنطق والإبصار؛ إذ إن مركز السمع في المخ أكثر تقدمًا وتطورًا من مركز البصر وبقية الحواس الأخرى! كما أن الأذن عمومًا تُعتَبر المُتحكِّمة في جسم الإنسان كله؛ من: توازن وتنسيق للحركة وتنظيم العمليات الحيوية، كما أن لها دورًا كبيرًا في التحكم في الجهاز العصبي والتأثير على وظائفه!
قبل أن أشرَعَ في كتابة هذا المقال؛ قمتُ بعمل بحث على محرك البحث الشهير “جوجل” عن السَّمعِ والأذن.. وإليكم خُلاصة ما توصلتُ إليه:
سمَّاعة الأذن هي جهاز طبيٌّ كهرو سمعي صغير الحجم، مُصمَّمٌ ليقومَ بتضخيم الصوت لمرتديها؛ بهدف جعل الكلام أكثر وضوحًا، وتصحيح ضعف السمع حسب جهاز قياس الصوت. وهناك تقنيات أحدث اليوم مثل: زراعة القوقعة ومساعدات السمع المُثبَّتة بالعظام.
تاريخيًّا، فإن إرهاصات اختراع سماعة أُذن لضِعاف السمع؛ جاء تطويرًا لسماعة الطبيب التي يَفحصُ بها صدرَ المرضى، ثم تطورت للوصول إلى السماعة التي يستخدمها الصُّـمُّ. ولهذا قصة طريفة؛ فحواها أن الطبيبَ الفرنسي “رينيه ليناك” (1781م – 1826م)؛ حضرتْ إليه فتاةٌ مريضة. وكان الشائعُ وقتئذ أن يضعَ الطبيبُ أُذنَه على صدر المريض عند فحصه؛ ليتابعَ نبض قلبه وأجهزته الداخلية. لكنَّ تلك الفتاة أَبَتْ ذلك حياءً منها! فأحضر “رينيه” مجلة وقام بطيها على شكلٍ أُسطواني، ووضعها على صدر الفتاة، وبالفعل أدَّت الغرض. ومن هنا جاءته فكرة اختراع السَّماعة الطبية؛ حيث قام بصنُع أنبوب قادر على تضخيم ونقل الأصوات للأذن بشكل واضح عبر خرطوم صغير.
لكن عن أول سماعة أُذن عرفها البشر؛ فيُحكَى أن “فيكتوريا أليس إليزابيث” أميرة اليونان والدنمارك، وُلِدَتْ عام 1885م صمَّاء، وعانتْ من هذا الأمر. وذات يوم قَدِمَ من مدينة نيويورك الأمريكية طبيبٌ شاب علم بحالتها؛ فبذل جهودًا لمساعدتها في التغلب على مشكلتها؛ وهذا الطبيب هو “ميلر ريس هاتشنون”. وقد تمكَّن ميلر في العام 1901م؛ من اختراع أول جهاز سمعي، وظيفته تكبير الأصوات المحيطة بالشخص الأصم، وأهداه للأميرة فيكتوريا أليس إليزابيث؛ التي تُعدُّ أولَ شخصٍ في العالم استخدم جهازًا يُساعد على السمع، أُطلِق عليه وقتها اسم: “أكو ستيكون”. واعترافًا منها بالجميل؛ فقد منحت الأميرة هذا الطبيب وسامًا ملكيًّا رفيعًا.
والشيءُ بالشيءِ يُذكَر؛ فإن أول من اكتشف قناة استاكيوس الموجودة في الأذن. والمسئولة عن السمع؛ هو الطبيب الهولندي “يارتليمو يوستاشيو” (1520م – 1574م)؛ وذلك في القرن السابع عشر الميلادي، ويُطلِق عليها البعض “القناة اليوستاشية”؛ نسبةً إلى مكتشفِها.
أما أول من كان له السَّـبْقُ في اكتشاف أمراض الأذن والحنجرة وأسبابها؛ فهو الطبيب النمساوي “روبرت بارتي” (1876م – 1936م) الحاصل على جائزة نوبل عام 1914م.
وكانت السماعات في بداية استخدامها كبيرة الحجم ومُحرجة، كما كان الصوت الصادر عنها رديئًا ومُشوَّشًا؛ يُزعج مَن يستخدمُها! لكن بمرور الأيام؛ تطورت تقنية السَّماعات.
وبفضل التطور التكنولوجي الآن؛ استطاع ضِعاف السَّمع أن يتغلبوا على الكثير من مشاكلهم، ويسمعوا من خلال أجهزة دقيقة تُوضَعُ في الأذن؛ وربما من دون أن يراها من يتعاملون معهم عن قرب، وذلك لدِّقَّتِها وصِغَـرِ حجمها!
ومما يجدر ذكره أيضًا أن السَّماعات الطبية المصنوعة في الدنمارك تتفوق على غيرها، تليها السماعات الكندية ثم السماعات السويسرية، وغيرها من الأنواع.
ومؤخرًا استُحدِثتْ سماعاتٌ مدمَجة؛ تُعطِي نوعية صوت أفضل بكثير، وتتوافر بأشكالٍ مختلفة تناسب كل شخص وحاجاته إلى التواصل مع الكون من حوله. كما أصبح لدى مختصي السمعيات وسائل عديدة لاختبار السمع يمكن بواسطتها تحديد درجة السمع وحدته بدقة شديدة، وتحديد نوع فقدان السمع.
وبعد
هل أبالغ إن قلتُ: إنَّ سمَّاعات الأذن في عالمنا اليومَ صارت من أدوات الرفاهية!! فحينما أجول بعينيْ في أي مكان؛ أرصد العديد من الشباب والفتيات، يضعون في آذانهم سمَّاعات موصولة بهواتفهم؛ وهم غائبون عن الواقع من حولهم! وعلى الفورِ يَرِد على خاطري قول الله تعالى: “قل هو الذي أنشأكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة قليلا ما تشكرونَ”. [المُلك – آية:23]. صدق الله العظيم