إبراهيم نوار يكتب .. عندما تصبح الصين قوة بحرية تخشاها الولايات المتحدة سيتغير العالم
تصاعد وتيرة الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والصين، وزيادة التوتر لأسباب بعضها موسمية مثل قرب موعد الإنتخابات الأمريكية، وبعضها ذات طابع هيكلي جيواستراتيجي مع تنامي قوة الصين وتراجع الولايات المتحدة، جعل احتمال نشوب صدام مسلح بين الطرفين مسألة واردة وغير مستبعدة، مع تحوطات تقترب من حد اليقين بأن الولايات المتحدة لا يمكنها ان تغامر بدخول حرب واسعة النطاق مع الصين، لأن ذلك سيجر أطرافا أخرى ، بما يحول المواجهة إلى حرب فناء نووي.
تقديرات خبراء الاستراتيجية العسكرية في الصين تذهب إلى أنه في حال اختارت الولايات المتحدة مواجهة مسلحة مع الصين، فإن المرجح هو احتمال ان يحدث ذلك حول تايوان او في بحر الصين الجنوبي. وتذهب هذه التقديرات إلى أن إبعاد شبح حدوث مثل هذا الاحتمال يتطلب ان تستعرض الصين قدرتها على الردع العسكري، بما يجعل القيادة الأمريكية في غير شك من قوة رد الفعل الصيني الذي يمكن أن يسبب خسارة فادحة للولايات المتحدة. وفي هذا السياق اجرت الصين مناورات بحرية واسعة النطاق على مرحلتين في بحر الصين الجنوبي.
ما تزال الولايات المتحدة أكبر قوة عسكرية في العالم، ومن المتوقع أن تستمر كذلك لعقود مقبلة، إلا إذا وقعت تطورات مفاجئة، أو حدث تغير عميق في تكنولوجيا السلاح. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة متفوقة جدا في سباق الفضاء، فإن قيام روسيا بتجربة أثبتت قدرتها على إطلاق صاروخ من منصة فضائية له القدرة على تدمير أقمار صناعية، ربما يصبح تطورا يغير قواعد اللعبة تماما في سباق الفضاء. لكن المجال الذي ما تزال الولايات المتحدة تتمتع فيه بتفوق ساحق على المستوى العالمي هو قوتها البحرية. ومن المعايير التي لا يمكن أن يخطئ تقديرها أي متابع لموازين القوة في العالم، أن الولايات المتحدة وحدها تملك من حاملات الطائرات أكثر مما تملكه كل القوى الرئيسية الأخرى مجتمعة، وأن حاملات الطائرات الأمريكية هي الأكثر تطورا، وتعمل بمحركات نووية، والأقوى تسليحا على كل المستويات. ومما يلفت الإنتباه في الوقت الحالي أن الولايات المتحدة تستثمر قوتها البحرية إلى حد كبير في استعراض للقوة أمام سواحل الصين الجنوبية، بينما يتزايد تصعيد التوتر بين القوتين في كل المجالات تقريبا.
في يونيو 2005 كتب المفكر الأمريكي روبرت د. كابلن مقالا في مجلة (ذي أتلانتيك) بعنوان “كيف سنحارب الصين؟” قال فيه إن السباق العسكري بين الولايات المتحدة والصين سوف يكون العلامة الرئيسية التي تميز القرن الواحد والعشرين، وأن الصين سوف تكون خصما أشد قوة بكثير عما كانت عليه روسيا. ثم عاد كابلن ليذكر العالم بمقاله هذا في بداية العام الماضي، وذلك في مقال جديد نشره في مجلة (فورين بوليسي) الأمريكية. أهمية مقالات كابلن تكمن في انها تتابع بدقة العلاقة بين الثوابت والمتغيرات، في العلاقات بين الجغرافيا وبين النفوذ السياسي والقوة العسكرية، وما يربط بينها جميعا من فكر سياسي ودبلوماسية. ولذلك فإن هذه المقالات تلقي الضوء على محور الصراع الرئيسي بين الولايات المتحدة والصين من حيث العلاقات بينهما، ومن حيث طبيعة علاقات كل منهما بالعالم، ومن حيث تحولات العالم خارج كل منهما. لكن فهم الصراع الحالي من الناحية الجيوبوليتيكية لا يتحقق بدون القراءة العميقة لمؤلفات السير هالفورد ماكيندر أحد الآباء المؤسسين لعلوم الجغرافيا السياسية والإستراتيجية وتاريخ الصراع على النفوذ بين القوى الإمبراطورية. ماكيندر هو صاحب نظرية “قلب الأرض” الشهيرة، التي قدمها لنا بذكاء خالد الذكر المفكر جمال حمدان في كتابه المعنون “إستراتيجية الإستعمار والتحرير” الذي قدم فيه عرضا عبقريا لتطور صراع القوى في العالم حتى نشأة حركات التحرر الوطني والحرب الباردة.
الصراع على النفوذ البحري
وسواء بدأنا من روبرت كابلن أو من هالفورد ماكيندر؛ فإننا سنجد أن الصراع الحالي بين الولايات المتحدة والصين، سوف تحسمه قدرة أي من الطرفين على امتلاك ناصية القوة في البحار. لكننا نضيف إلى ذلك الآن أيضا القدرة على إمتلاك ناصية القوة والتفوق في سباق الفضاء. يقول كابلن إن الولايات المتحدة منذ فجر قوتها كدولة مستقلة، إعتبرت منطقة الكاريبي بوابتها إلى العالم، ومنفذها لتحقيق النفوذ في النصف الغربي من الكرة الأرضية، بدءأ من أمريكا اللاتينية حتى بلدان شرق آسيا والمحيط الهادي. وبدون سيطرتها على جزر الكاريبي والممرات البحرية إلى جزر وبلدان المحيط الهادي وشرق آسيا، ما كانت الولايات المتحدة لتستطيع أن تبني قوتها الإقتصادية ونفوذها في القرن التاسع عشر؛ فنفوذها في هذه المناطق سابق على نفوذها في أوروبا الغربية وبقية أنحاء العالم. ولولا قوتها ونفوذها في منطقة الكاريبي وأمريكا اللاتينية والمحيط الهادي ما كان نفوذها في المحيط الأطلنطي وأوروبا والشرق الأوسط، وهو النفوذ الذي تجسد بقوة خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها، إلى الدرجة التي لعبت فيها دور الممول للتنمية وإعادة البناء لأوروبا الغربية من خلال خطة مارشال، ودور الحامي العسكري ضد احتمالات التوسع السوفييتي بعد الحرب، من خلال حلف الأطلنطي ومجموعة القواعد العسكرية التي أقامتها في أوروبا الغربية وحول العالم. ويمكننا القول بأن الولايات المتحدة ظهرت على العالم كقوة بحرية بالأساس، وما تزال حتى الآن أكبر وأقوى القوى البحرية، وأكثرها قدرة على الإنتشار والمناورة في كل بحار ومحيطات العالم، بما لها من أساطيل وحاملات طائرات تزيد عن كل مايملكه العالم.
أما الصين فإنها على العكس تماما؛ فهي أضعف ما تكون كقوة بحرية، إذ أن القوة الصينية على مر التاريخ وحتى القرن العشرين كانت قوة برية، تعطي ظهرها للبحار والمحيطات التي تطل عليها، وتعتمد اعتمادا أساسيا على المنعة العسكرية التي تحصل عليها من اتساع مساحتها وتنوع تضاريسها، إلى الدرجة التي جعلت منها فريسة سهلة للقوى البحرية الجديدة التي انطلقت لتغزو جنوب و شرق آسيا منذ بداية عصر الكشوف الجغرافية، وحتى تطوير محركات السفن البخارية، وهي التكنولوجيا التي ساعدت انجلترا على هزيمة الصين في القرن التاسع عشر، واحتلال سواحلها الجنوبية، حيث توجد المراكز التجارية الرئيسية والمنافذ التي تربط الصين بالعالم. الصين لم تكن أبدا قوة بحرية عالمية، على الرغم من موقعها البحري المتميز. هذه الحقيقة تفسر لماذا كانت الصين في موقع أضعف في مواجهة غيرها من القوى من النواحي الجيوستراتيجية حتى القرن الماضي. أما الآن فإنها تتحول بسرعة وبقوة من مجرد قوة برية منكفئة على داخلها الشاسع المتنوع، إلى قوة بحرية وفضائية من طراز عالمي رفيع، بالدرجة التي تؤهلها للمنافسة على النفوذ في العالم.
أهمية بحر الصين الجنوبي
في هذا السياق فإن روبرت كابلن يرصد ذكاء مدى أهمية بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي بالنسبة للصين، ويقيم مقارنة صحيحة بين هذه الأهمية وبين تلك التي كانت للولايات المتحدة في منطقة جزر الكاريبي. وفضلا عن أهمية بحر الصين الجنوبي لتدفق التجارة الدولية، فإنه يمثل المنفذ الرئيسي للصين إلى البحار والمحيطات المفتوحة في العالم. ومن الصعب تصور أن تتحول الصين إلى قوة عالمية رئيسية إذا تمكنت الولايات المتحدة من شل حركتها وخنقها هناك. لذلك فإن صدام النفوذ في منطقة بحر الصين الجنوبي على وجه الخصوص يمثل عقدة الصراع في الوقت الحاضر بين القوتين الرئيسيتين في العالم. وهذا ما يفسر موقف وزير الخارجية الأمريكي مايكل بومبيو في إعلان رفض بلاده للإدعاءات الصينية بالسيادة على بحر الصين الجنوبي، وتحريض الدول المحيطة ضد قيامها بعسكرة المنطقة، بما في ذلك إنشاء جزر صناعية لتصبح مواقع متقدمة للبحرية الصينية في مواجهة الولايات المتحدة خارج البر الرئيسي للصين. ويبدو أن القيادة العسكرية الصينية لا ترغب في أن تكون مدنا مثل شنغهاي مسرحا لصدام عسكري، ولذلك فإنها تقيم خطا حصينا في البحر تؤدي داخله القوات الصينية مهامها في مواجهة القوى الأخرى. ولذلك فإنه من المرجح أن يستمر بحر الصين الجنوبي مسرحا للإستفزازات العسكرية وربما الإشتباكات المحدودة بين القوتين.
الصين قوة بحرية ناشئة
وما تزال الصين في مرحلة مبكرة على طريق بناء قوتها البحرية؛ فبينما هي تمتلك حاملتي طائرات من الجيل الثاني، فإن الولايات المتحدة تمتلك ثلاث عشرة حاملة طائرات، متعددة المهام ذات قوة ضاربة هائلة، تعمل محركاتها بالطاقة النووية، ومنها أكبر وأحدث حاملة طائرات في العالم (جيرالد فورد) التي يبلغ وزنها حوالي 100 ألف طن من الصلب، وهي مزودة بأحدث التكنولوجيا والطائرات المتعددة المهام. كما يضم أسطول حاملات الطائرات أيضا الحاملة الجديدة جون كينيدي التي ما تزال في مرحلة التجارب. ومع ذلك فإن البحرية الأمريكية تعيد النظر حاليا في خطط التسليح مع الميل إلى تفضيل القطع البحرية الأقل حجما ووزنا والأشد تسليحا، وذلك لتجنب الخسائر التي يمكن أن تتسبب فيها الصوارخ المضادة للسفن التي طورتها الصين في السنوات الأخيرة. وتبني الصين حاليا في إحدى ترساناتها البحرية حاملة الطائرات الثالثة، بعد أن دخلت الثانية إلى الخدمة في العام 2019. ومن المتوقع أن تبدأ في بناء ثلاث حاملات طائرات إضافية حتى منتصف ثلاثينات القرن الحالي. وبذلك فإن البحرية الصينية سيكون لديها في 2035 ست حاملات طائرات تتوزع من حيث المهام على ثلاثة أساطيل، تعمل في بحر الصين الجنوبي، والشرقي والبحر الأصفر. لكن ما يلفت الإنتباه في تسليح البحرية الصينية هو اعتمادها على قوة تسليحية متطورة، والتوسع في استخدام التكنولوجيا الجديدة مثل تكنولوجيا الذكاء الصناعي والتسيير عن بعد، إضافة إلى التوسع في استخدام الأسلحة الجديدة مثل أسلحة الليزر والغواصات الصغيرة ذاتية القيادة.
ونظرا لأن أسطول الصين البحري ما يزال محدودا وضعيفا مقارنة بالبحرية الأمريكية، فإن الصين لا تستطيع أن تتمدد خارج حدودها كما هو الحال بالنسبة للولايات المتحدة. ولذلك فإن المصالح الصينية في الخارج سواء في جنوب آسيا، مثل في باكستان (ميناء جوادر) ، أو في شرق أفريقيا (تنزانيا) أو في مدخل البحر الأحمر ( جيبوتي) تظل مصالح مكشوفة ومن الصعب الدفاع عنها في حال نشوب صراع بحري مع الولايات المتحدة. ويبدو من قراءة خريطة تطوير القوة البحرية الصينية حتى الآن أنها تركز على الجانب الدفاعي وليس على التوسع في البحار والمحيطات المفتوحة في العالم، وهو ما يمنح الولايات المتحدة ميزة نسبية، لكنه يضع البحرية الأمريكية في مواجهة ثلاثة أساطيل صينية متقدمة التسليح كلها ترابط قريبا من خطوط إمداداتها في المياه الصينية.
نشر الكاتب إبراهيم نوار المقال عبر صفحته الشخصية على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك
اقرأ أيضًا
التضامن تعلن مميزات شهادة رد الجميل بقيمة تبدأ من 1000 جنية بعائد 15% شهريًا