يحاول أولياء أمور الأطفال ذوي الإعاقة إلحاقهم بالمدارس في رحلة شاقة نفسيًا وماديًا، جهات حكومية معنية بتنفيذ القانون ودمج ذوي الاحتياجات الخاصة، يتعنتون في تطبيقه، ومدراس لا تلقي بالًا لنفسية التلاميذ من ذوي الهمم، أو الأمهات والأهالي ممّن يحملون مسؤولية أبناء في عمر الزهور، يحتاجون لرعاية خاصة، ومصاريف دراسية وعلاجية تنوء بحملها العصبة أولى القوة.
تحمل كل أم الأوراق المطلوبة وتبدأ رحلة “الكعب الداير” بين المدارس وهيئة التأمين الصحى والمستشفيات الحكومية والإدارة والمدرسة مرة أخرى، لتنهى كل منهن المستندات المطلوبة لإلحاق طفلها من ذوي الإعاقة بمدارس التربية الخاصة والدمج التعليمي، إلا أنهن يصطدمن بإجراءات روتينية معقدة وضعتها وزارة التربية والتعليم، وتوقيعات وتأشيرات وأختام، وقائمة انتظار تمتد لشهور طويلة لإجراء اختبار ذكاء لا يستغرق أكثر من 35 دقيقة فقط يحدد مصير الأطفال في الالتحاق بالمدارس المتهالكة.
مدارس بلا مخصصات مالية، وبلا ميزانية تنفق بها على الوسائل التعليمية أو أعمال الصيانة البسيطة، فصول فقيرة الوسائل التعليمية، والمناهج استرشادية لم تحدث منذ عدة عقود، والمياه مختلطة بالصرف الصحى، والبالوعات مفتوحة والأسلاك عارية.
كشفت المصري اليوم في تحقيق صحفي أعدته الزميلة وفاء يحيى، تردى الأوضاع وفقر الإمكانيات بمدارس ذوى الإعاقة، ورافقت الأمهات في رحلتهن إلى عالم البيروقراطية لإنهاء أوراق الدمج التعليمى.
استيقظت في الخامسة فجرا، حاملة طفلها وحقيبتها، آملة في اللحاق بموعدها قبل تكدس العاصمة بآلاف الموظفين المتجهين لأعمالهم صباحا، لتزج بنفسها داخل أحد أتوبيسات النقل العام المتجهة من حى مدينة السلام باتجاه منطقة عبده باشا، علها تفوز برقم متقدم في طابور لجنة فحص الطلاب ذوى الاحتياجات الخاصة، بالملعب الرياضى الملحق بمديرية التربية والتعليم بالقاهرة، حيث ستقرر اللجنة دمج طفلها من عدمه بمدرسة عبيدة بن الجراح القريبة من منزلها، بعد أن طلبت منها إدارة المدرسة تقريرا من اللجنة المذكورة قبل الموافقة على قبول ابنها بالفصول العامة بها ومنحتها أسبوعا لإنهاء الإجراءات قبل استبداله بطالب آخر من قائمة الانتظار الخاصة بالمدرسة، وفقا للقرار الذي أصدره الدكتور محمود أبوالنصر وزير التربية والتعليم الأسبق خلال عام 2015، بقبول الطلاب ذوى الإعاقة في مدارس التعليم العام والذى تم تعديله عدة مرات من وزراء التربية والتعليم اللاحقين له.
طوال 40 دقيقة استغرقها أتوبيس النقل العام فى توصيل الأم ونجلها لوجهتهما، استعادت خلالها “منال الفقى” مع نسيم الصباح البارد ذكريات سنوات زواجها السبعة الماضية، بعد أن حملت أحلامها معها داخل حقيبتها لتترك بلدتها الصغيرة بمحافظة المنيا، بعد أن زفت لأحد أبناء عمومتها بالقاهرة، رامية بعرض الحائط كافة تحذيرات والدها الطبيب بضرورة إجراء اختبارات ما قبل الزواج لها ولزوجها لتجنب إصابة أبنائهما بأمراض وراثية، قبل أن يثمر حملها الثانى عن طفل مصاب بتشوهات بأحد الأطراف وتأخر لغوى وذهنى واضح، لتبدأ معه رحلة البحث عن مدرسة تقبل حالته دون اللجوء للالتحاق بإحدى مدارس التربية الخاصة.
ووفقا للقرار الوزارى رقم 252 الصادر فى عام 2017 من قبل الدكتور طارق شوقى وزير التربية والتعليم، فإن جميع مدارس التربية والتعليم بمصر دامجة للطلاب ذوى الإعاقة بما فيها المدارس الحكومية والخاصة والدولية ومدارس الفرصة الثانية، ومن حق الطالب ذى الإعاقة أن يدمج بأقرب مدرسة لمحل إقامته، والتى يجب أن تتوافر بها غرفة مصادر أوغرفة مناهل المعرفة، وألا تزيد نسبة التلاميذ ذوى الإعاقة عن 10% من العدد الكلى للفصل بحد أقصى أربعة تلاميذ على أن يكونوا من نفس نوع الإعاقة، على أن تكون سن الالتحاق بالصف الأول الابتدائى بمدارس الدمج من (6 -9) سنوات وفقا لقانون التعليم.
ياسر جمعة يكتب .. الدمج فى مدارس التعليم العام والفنى
وصلت الأم وطفلها فى تمام الساعة السادسة والنصف صباحا لتحصل بسعادة بالغة على رقم 187 من طابور ذوى الاحتياجات الخاصة والذى يمتد خارج ملعب المدرسة لعدة أمتار، نظرا لوجود مسؤولة واحدة لفحص الطلبات المقدمة والتى تصل إلى ما يزيد على 250 شخصا يصطحبون عددا مماثلا من الأطفال لفحصهم.
تحت أشعة الشمس الحارقة بشهر أغسطس جلست منال بعد أن استعدت بحقيبة بها بعض الطعام والعصائر، والتى تكفى طفلها وتقيه الإصابة بضربة شمس حادة كما حدث من قبل مع رفاقه أمام عينها، لغياب التجهيزات ودون أى وجود للوحات استرشادية أو قائمة تحدد الأوراق والمستندات المطلوبة أو تخصيص أحد العمال لإرشاد وتوجيه أولياء أمور طلاب صنفوا أنهم «احتياجات خاصة».
مع حلول الساعة الرابعة والنصف عصرا نادت المسؤولة على الرقم 187 لتهرول الأم المنهكة ونجلها الذى غلبه النعاس على كتفها بعد انتظار زاد عن 10 ساعات، مقدمة أوراقه ملتمسة الحصول على التـأشيرة والختم لاستكمال التحاقه بالمدرسة، لتفاجأ الأم بطلبين متناقضين، الأول إثبات قيد من المدرسة التى لم يقبل بها بعد والآخر إعادة اختبار الذكاء لأن النسخة المقدمة من جامعة عين شمس قديمة ومر عليها 6 أشهر وقد يكون مستوى ذكاء الطفل اختلف خلال تلك المدة الزمنية.
حين توجهت الأم حاملة اختبار ذكاء صادرا من مركز ذوى الاحتياجات الخاصة بجامعة عين شمس وهى إحدى الجامعات الحكومية العريقة، رفضت لجنة الدمج الاعتراف بالاختبار، مطالبة الأم بإعادة الاختبار مرة أخرى من كلية الطب بنفس الجامعة دون معرفة سبب واضح للفرق بين النموذجين.
برلمانيون يهاجمون وزارة الصحة .. “حنفي”: عملنا موقع البطولة الإفريقة في ثلاث أيام
داخل أروقة مستشفى الصحة النفسية التابعة لكلية الطب بجامعة عين شمس، توجهت الأم وبرفقتها الطفل لعقد الاختبار والحصول على نتيجته مختومة بشعار الجمهورية، ليأتى الرد بأنها ستتسلم نتيجته بعد 3 أسابيع، وبعد استعطاف العاملين بسرعة إجراء الاختبار قبل انتهاء المهلة المحددة من إدارة المدرسة لقبول ابنها والمقدرة بسبعة أيام، لم تجد الأم بدا سوى اللجوء لمكتب رئيس الجامعة لطلب مساعدتها ونجلها فى إنجاز مهمتها، ليكون أكثرهم إنسانية ويأمر على الفور فى عقد الاختبار وتسليمه خلال 30 دقيقة فقط. وعلى الرغم من حصول الطفل على درجة 65 باختبار الذكاء وهو ما يؤهله للالتحاق بفصول الدمج بالمدارس الحكومية والخاصة، إلا أن الطبيب الذى أجرى الامتحان نصح الأم بإلحاق نجلها بإحدى مدارس التربية الفكرية لأن نظام الدمج بالمدارس أثبت فشله وتسبب فى أمراض نفسية وعصبية للطلاب المدمجين فضلا عن تدهور مستواهم العقلى وعدم حصولهم على أى معلومات تفيدهم على الإطلاق.
وفقا لقرار الدمج، يقبل بالمدارس الطلاب الذين يعانون الإعاقة البسيطة، وبطء التعلم وجميع المتلازمات «داون وإرلن» والتوحد البسيط وفرط الحركة وتشتت الانتباه بشرط ألا تقل درجة الذكاء عن (65) ولاتزيد على (84) باستخدام مقياس تانفورد بينيه (الصورة الرابعة أو الخامسة)، وجميع درجات الإعاقة البصرية «الكفيف، وضعيف البصر من تقل حدة إبصاره عن (660)»، وجميع درجات الإعاقة الحركية «الشلل الدماغى ويتم استثناء الحالات الشديدة والحادة منها»، وكذلك طلاب الإعاقة السمعية «بشرط ألا يزيد مقياس السمع عن (70) ديسيبل، ولايقل عن (40) ديسيبل باستخدام المعينات السمعية مثل سماعة الأذن أو حالات زراعة جهاز قوقعة» ولا يتم قبول التلاميذ متعددى الإعاقة بمدارس الدمج.
فى يوم مشابه ورحلة مكررة لأمهات ذوى الإعاقة ترجلت أم أخرى لطفل شبيه بسابقه من سيارتها أمام أحد المحال التجارية بمنطقة الجيزة، لتسأل عن مقر مدرسة الأمل للتنمية الفكرية، لاستكمال إجراءات إلحاق نجلها بإحدى مدارس الدمج، بعد أن طلبت منها الموظفة المسؤولة بمديرية التربية والتعليم التوجه لها حيثما تكون لتوقيع الأوراق ولتوافر الختم مع إحدى زميلاتها والتى لم تحضر لمقر عملها لأسباب صحية.
منشور من الجمارك لمنح ذوي الإعاقة تسهيلات جديدة (مستند)
لم تحاول أن تعبر عن غضبها من طلب الموظفة لها بالتنقل بين المدارس بحثا عن التأشيرة و”الختم” الحائر بين الموظفات المستخفات بحقوق الطلاب بالالتحاق بالفصول الدراسية كباقى أقرانهم، فما حدث معها ومع غيرها من “التردد على المكاتب” و”استجداء حق نجلها فى التعلم” أكثر حدة من وجود هذا العدد الضخم من الموظفين غير المؤهلين أوالمدربين على التعامل مع الطلاب ذوى الإعاقة.
كانت وجهة الأم، إيناس مصطفى، إلى إدارة إحدى المدارس الخاصة بالجيزة لتجديد قرار استمرار الدمج لنجلها بالصف الثالث الإعداداى مثل كل عام، مصطحبة كافة الأوراق اللازمة، بعد أن حفظت الإجراءات عن ظهر قلب لتكرارها دوريا قبل كل امتحانات دون معرفة سبب واضح لذلك.
اصطحبت الأم صورة من أوراق العام الماضى، وشهادة ميلاد الطفل وإثبات قيده بالمدرسة وصورة اختبار الذكاء المختوم بشعار الدمج، لتفاجأ بطلب من مدير الإدارة التعليمية بإعادة جميع إجراءات الالتحاق بفصول الدمج من البداية، لأن ورق نجلها ببساطة “ضاع”، من الموظفة ولا يوجد نسخة احتياطية له.
لم تتمالك الأم نفسها، كان بركان غضبها على وشك الانفجار، فإعادة الإجراءات من البداية كانت بمثابة كابوس لها، تمر به جميع الأسر التى تلحق أحد أبنائها من ذوى الإعاقة أو المدمجين بفصول المدارس الحكومية والخاصة.
انتابت الأم حالة من البكاء الهستيرى أعقبها حالة من الانهيار الحاد، وهى ترى الفرصة الوحيدة لتعليم نجلها تتبخر أمام عينيها نتيجة بيروقراطية حكومية وإهمال وتنصل من المسؤولية من قبل العاملين بوزارة التربية والتعليم وكأنها تتسول حقها وحق نجلها فى المعرفة. وتصحب أم أخرى ابنتها، البطلة البارالمبية، فى رحلة داخل مصر وخارجها على نفقتها الخاصة، وتجلس لمراقبة أدائها المبهر فى شغف وفخر، تشعر بالإجهاد والتعب وتواجه قلة النوم وشعورا بالحنين للعودة لوظيفتها المرموقة بشركة مصر للطيران، لكنها سرعان ما تنسى همومها حين ترفع ابنتها ذات الخمسة عشر عاما علم مصر فى المحافل الدولية لتحصد الميدالية تلو الأخرى فى تحد وإصرار كبيرين لإعاقتها الحركية.
وعلى الرغم من تكريم الدولة لها وكافة الدول التى شاركت بها، إلا أن وزارة التربية والتعليم، كان لها رأى آخر فى التعامل مع إعاقة بطلة البارالمبية آية أيمن، أصغر سباحة فى العالم تتأهل لبطولة العالم للمعاقين.
تحكى والدة بطلة البارالمبية آية أيمن معاناتها ونجلتها يوميا فى المدرسة الخاصة الملتحقة بها بمدينة نصر، حيث رفضت المدرسة إلحاق الطالبة المصابة بضمور فى العضلات بأحد الفصول بالدور الأرضى تنفيذا لقرار وزارة التربية والتعليم لطلاب ذوى الاحتياجات الخاصة.
خطوة بخطوة .. طريقة استخراج كارت الخدمات المتكاملة
وتروى الأم تفاصيل تتكرر يوميا بالاستعانة باثنين من السائقين بالمدرسة لرفع الطالبة وحقيبتها بالكرسى الخاص بها للدور الرابع، داخل فصلها والنزول بها بمقابل مادى، لعدم وجود تجهيزات بالمدرسة لذوى الإعاقة، واشترطت المدرسة عند قبول ملف الطفلة أن تعتمد على نفسها فى الطلوع والنزول رغم الإعاقة الخاصة بها أو رفض قبولها. “الموضوع كان بسيط فى المرحلة الابتدائية كنت بأراضى الدادة وتحمل آية لفصلها وتنزلها لكن دلوقتى البنت كبرت وشنطتها تقيلة والكرسى وزنه تقيل وباضطر للاستعانة بأى عمال فى الشارع أو أصحاب أخوها أو زمايل والدها فى حالة غياب سائقين المدرسة” قالتها الأم بكل مرارة وأسى.
وأضافت: “القانون لا يطبق بتخصيص فصل فى الدور الأرضى وتواصلنا مع الإدارة بعد انهيار وبكاء ابنتى لصعوبة حمل الكرسى المتحرك والشنطة المدرسية والصعود والنزول بها 4 أدوار يوميا، وفوجئنا بالرد بأن المدرس لديه حصة أخرى فى الفصل المجاور لفصلها بالدور الرابع وليس من المعقول أن يستمر فى الصعود والنزول 4 أدوار من أجلها فقط، وبخلاف مشكلة التجهيزات فإن ابنتى استيعابها أقل لأنها أجرت عملية فى المخ وحركة يديها فى الكتابة بطيئة وتحتاج أن تخفف المناهج لها ولباقى ذوى الإعاقة، ومراعاة البطل المعاق الرياضى فى إعادة شرح المناهج خلال فترة البطولات”. وينص قرار الدمج على توفر اشتراطات معينة بمدارس الدمج على رأسها تجهيز المبنى للطلاب ذوى الإعاقة الحركية، ومساحة باب الفصل للكراسى المتحركة وتجهيز دورات المياه وتوافر غرفة مصادر أو مناهل المعرفة لطلاب الإعاقة السمعية والذهنية، وتوفر فصول بالدور الأرضى لطلاب الإعاقة الحركية والمكفوفين.
لم يختلف التفوق الرياضى عن التعليمى فبالرغم من تكريم الرئيس عبدالفتاح السيسى لها ومنحها سيارة مجهزة لطبيعة إعاقتها من ماله الشخصى، واجهت آية مسعود الأولى على الثانوية العامة بمدارس الدمج عددا من المشكلات أبرزها عدم تقديم منحة دراسية لها مثل باقى أوائل الثانوية العامة للالتحاق بالجامعات الدولية والخاصة قبل أن تستجيب لها الجامعة الألمانية بتقديم منحة لدراسة إدارة الأعمال بها أسوة بباقى الطلاب. وعلى الرغم من الاهتمام الإعلامى الذى حظيت به أسرة الطالبة، إلا أن شقيق الطالبة والمصاب أيضا بضمور فى العضلات واجه نفس مشكلات مدارس الدمج بعد أن أخبرته المدرسة بأن فصله فى الدور الثالث وليس الأرضى بالمخالفة للقانون. كما اضطرت الطالبة وأسرتها لرفض الالتحاق بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة رغم قبولها بمكتب التنسيق لعدم وجود خدمات للطلاب من ذوى الإعاقة الحركية من أرصفة أو سلالم أو مصاعد مخصصة، ووافقت الأسرة على المنحة المقدمة للدراسة بكلية إدارة الأعمال بالجامعة الألمانية لوجود كافة التجهيزات المطلوبة لذوى الاحتياجات الخاصة
نشر التحقيق في جريدة المصري اليوم، ويعيد موقع نساعد نشره بعد ترشح التحقيق لجائزة نقابة الصحفيين.