عبد الله السبع يكتب .. إرادة لا تعرف المستحيل
منذ فتنَـتْني القراءةُ في بواكير الصِّـبا؛ ولديَّ شغفٌ خاص بالكتابات التي ترصد تجارب الذين بذلوا الجهد والعَرق بكل إصرار وعزيمة؛ حتى تبوأوا أماكن يرنو إليها الجميع، وصارت قصص نجاحهم يُضرَب بها الأمثال، وتسير بحَكيها الرُّكبان.
وفي تسعينيات القرن الماضي؛ لفَتَني جدًّا كتابٌ اسمه: “إرادة لا تعرف المستحيل.. هؤلاء تحدُّوا الصِّعاب”، للكاتب: سامي البجيرمي.. وهو من ذوي القدرات الخاصة؛ حيث ابتُلي بفقد البصر وهو طفل صغير.
وبلغ بيَ الشغفُ بذاك الكتاب؛ حَـدَّ أن استعرتُه من مكتبة العمل أكثر من مرة، وأعدتُ قراءته على فترات. وفي هذا المقال يُسعدُني أن أطوفَ بكم عبر صفحات هذا الكتاب وشخوصه؛ الذين التقاهم المؤلف بنفسه.. وهم من دَمٍّ ولحمٍ مثلِنا؛ لكنهم – بإرادتهم الفولاذية – صنعوا المعجزات، ولم يعترفوا بكلمة المستحيل أبدًا. يقول المؤلف في صفحة الإهداء، التي تلي الغلاف:
“إلى كل من يتسرب اليأس إلى نفسه، بمجرد مصادفته لأي عائق أو عقبة في الحياة.. وينسى أن الله سبحانه وتعالى ليس بظلام للعبيد، وأنه جلَّ شأنُه أعدلُ العادلين؛ أُهدِي هذا الكتاب”.
الأوراق المطلوبة لإثبات الإعاقة البصرية والسمعية طبقًا للقانون
وفي المقدمة يقول: “كلما اشتدَّ ظلام الحياة، وسُدَّت الطرق؛ يستطيع الإنسان أن يُحقق ما يريد متى أراد.. والتاريخ يؤكد هذا على مدى العصور؛ فالحياة دومًا معارك، ولا يكون البقاء فيها إلا لمن امتلك الإرادة وشحذ همته للعمل”.
يتابع المؤلف: “وإن كانت الحياة معركة؛ فلماذا لا نكسبها؟ هذا السؤال هو الحافز الوحيد الذي يجعل الإنسان يُغيِّر من طبيعة وأسلوب معيشته إلى الأفضل”.
يضيف الكاتب سامي البجيرمي: “بعض الناس يرون أن الإعاقة هي نهاية الحياة، وأن المعاق غير مطلوب منه أي شيء إلا أن ينتظر نهاية الأجل!! ولكن الواقع يقول بغير ذلك؛ فالمعاقون منتشرون في جميع مواقع العمل والحياة، يقودون مجتمعاتهم إلى الأمام.. شأنهم في ذلك شأن جميع المواطنين”.
وعلى الغلاف الأخير للكتاب؛ يقول المؤلف:
“نداء لكل مهزوم؛ وليس لكل معاق: عليك أن تُعيد النظر في قدراتك الدفينة.. أزل الغبار عنها، وابدأ معركتك مع الحياة.. إن الهزيمة أمام الظروف لا تؤثر إلا في ضعاف الإرادة؛ حتى لو كانوا من الأسوياء!!
فالمعاق ليس من فقَدَ حاسَّـةً من حواسه، أو جزءًا من جسده؛ لكنَّ المعاق الحقيقيَّ هو الإنسان الذي لم يستطع أن يُوظِّف طاقاته وقدراته للتغلب على الظروف القاسية التي تُحيط به..
المعاق الحقيقيُّ هو الإنسان الذي لا يريد أن يكون، والنماذج التي نقدمها في هذا الكتاب لم تنتصر فقط على إعاقاتها؛ بل كان لها السبق في ميادين الحياة!”.
وفي ثنايا الكتاب؛ لا يَملُّ المؤلف من توجيه كلامه إلى الذين استكانوا للظروف التي ألمَّتْ بهم، وعجزوا عن الوصول لأهدافهم، وغرقوا في بحار من اليأس والقنوط.. مُقدِّمًا لهم نماذج لم تنهزم بما مُنيتْ به من إعاقة، ولم تستسلم للأحزان أو جلست تَندُب حظََّها، ولم تعتبر إعاقتها نهاية الكون؛ بل نفضت ملابسها، وعادت إلى الحياة من جديد مبتسمة ومتسلحة بالإرادة، واتخذت من إعاقتها مرتكزًا جديدا للانطلاق إلى النجاح.
طبيب يوضح كيفية معاملة الطفل ذوي الإعاقة
وفي سبيل تحقيق ذاتها وحصد النجاح؛ تحدَّت كل الصِّعاب، واستعذبت كل الآلام.. مؤمنة بأن الله قد ابتلاها لحكمة؛ لكنه سبحانه وتعالى العادل قد عوَّضها بإرادة تنفذ في الصخور، وتقفز فوق العقبات.. ضاربة المَثل والقدوة لكل من عجزوا عن الوصول لأهدافهم وغرقوا في بحار من اليأس والقنوط!
وعقيدة “البجيرمي” التي نستشفُّها من خلال سطور الكتاب؛ أن كل فرد لديه قدراته الخاصة به.. التي خلقها الله سبحانه وتعالى فيه، وبها يستطيع أن يُحقِّقَ الكثير من الإنجازات. وأن الحياة ما هي إلا صراع مستمر، ولا يبقى في سجلاتها إلا من أراد لنفسه أن يكون.
والكتاب له جزءٌ أول بعنوان: “سوف أحيا”؛ يتناول السيرة الشخصية لعدد من ذوي الاحتياجات الخاصة عبر التاريخ، لكنَّي اخترتُ عرض الجزء الثاني الذي نتناوله اليوم؛ لأنه يضمُّ سيرة عددٍ من الشخصيات من الذين تحدُّوا الصِّعاب، ولم تمنعهم إعاقاتهم من تحقيق النجاح في الحياة، وقد التقاهم المؤلف شخصيًّا وأجرى معهم تلك الحوارات بنفسه.. والتي كانت نِتاج هذا الكتاب؛ وبعضهم لا يزال يحيا بيننا الآن.. ومن بين هؤلاء الشخوص:
د. عبد الحميد يونس (رائد الأدب الشعبي) الذي تحدَّى كف البصر، وحصل على الدكتوراه وعمل أستاذًا للأدب الشعبي والفولكلور بعدد من الجامعات، وله مئات التلاميذ وعشرات المؤلفات.
خالد حسان (قاهر المانش) صاحب شعار: “الحياة من جديد”؛ الذي حشد كل طاقاته وتعلم السباحة بمفرده؛ بعد تعرضه لحادث أدى إلى بتر قدمه اليسرى وكسر اليمنى؛ إثر سقوطه من “ترام” وكان عمره وقتئذ ١١ سنة.
وقد واصل “خالد” مشواره مع السباحة؛ حتى استطاع تحقيق بطولات عديدة، كان أبرزها عبور بحر المانش بساق واحدة في فرنسا عام ١٩٨٢م؛ ليُصنَّف باعتباره «أول معاق في العالم يعبر المانش»، وكان عمره وقتها ٢٢ سنة، وليُصبحَ المعجزة التى تحدث عنها العالم بأكمله.
د. صلاح مخيمر (أحد مصابي الحرب؛ حيث فقَد بصرَه وأحد ذراعيه في منطقة العلمين خلال الحرب العالمية الثانية). ولأنه كان من الذين لا يعترفون بكلمة المستحيل؛ فبعد تعافيه من إصاباته التحق بكلية الآداب عام 1945م، وتخصص في علم النفس. وكان الأول على دفعته فعينته وزارة المعارف بمعهد المكفوفين في الزيتون، ثم اختارته الوزارة في بعثة لفرنسا؛ فحصل على الدكتوراه من جامعة السوربون.
وعاد “مخيمر” إلى وطنه ليعمل أستاذًا بمدرسة المعلمين العليا، ثم قام بإنتاج أعظم مُدوَّنة عربية في علم النفس، وبلغت جملة مؤلفاته وكتبه وترجماته قرابة 40 مُصنَّفًا في مجالات علم النفس النظري والتطبيقي.
الفنانة أمل الصاوي (إحدى فتيات الصم والبُكم)، خريجة معهد السمع والكلام بإمبابة، وقد جسَّدت دورها الحقيقيَّ في فِلْم سينمائي؛ كفتاة صمَّاء كانت تعمل في ورشة ملابس وأحبت زميلها في العمل “عمر” الشاب الأبكم؛ الذي جسَّد دوره الفنان الراحل نور الشريف.. وكان ذلك في فِلْم “الصرخة” إنتاج عام ١٩٩١م.
مصطفى إبراهيم خليل (الذراعان الذهبيتان). السباح المصرى الذي أُصيب في حادث قطار؛ مما تسبَّب في بتر قدميه.. لكنه لم ييأس وجاهد؛ حتى شارك في العديد من المسابقات العالمية وعبر المانش ثلاث مرات؛ من ضمنها مرة ضد التيار في عام 1994م.
.. والكتاب يحوي قصصَ أبطالٍ آخرين تحدَّوا إعاقاتهم، واحتلوا أماكنهم في لوحة الشرف؛ التي تضم أسماء مَن لم يستسلموا للإعاقة وحفروا لأنفسهم طريقًا ممهدًا في الصخور الصمَّاء!
ويختم سامي البجيرمي كتابه “إرادة لا تعرف المستحيل.. هؤلاء تحدُّوا الصِّعاب”، بأبياتٍ مختارة من الشعر تشحذ الهِمَم، وتُطلق الأمل.. ونختار منها قول ابن أبي حصينة:
بِصِحَّةِ العَزمِ يَعلُو كُلُّ مُعتَزِمِ وَما جَلا غَمَراتِ الهَمِّ كَالهِمَمِ
وقول أبي الطيب أحمد المتنبي:
عَلى قَـدْرِ أهْـلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ وَتأتي علَى قـَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ